فصل: تفسير الآيات رقم (7- 8)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ تِلْكَ آيَاتُ التَّوْرَاةِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ‏}‏، قَالَ‏:‏ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ‏.‏

قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْكُتُبُ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ الْقُرْآنِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ هَذِهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ‏:‏ “ هَذِهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ “ وَوَجَّهَ مَعْنَى ‏(‏تِلْكَ‏)‏ إِلَى مَعْنَى “ هَذِهِ “ وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ تَوْجِيهِ ‏(‏تِلْكَ‏)‏ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي “ سُورَةِ الْبَقَرَةِ “ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

وَ‏(‏الْآيَاتُ‏)‏، الْأَعْلَامُ وَ‏(‏الْكِتَابُ‏)‏، اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا كُلَّ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ‏.‏

وَإِنَّمَا قُلْنَا‏:‏ هَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، لِأَنَّهُ لِمَ يَجِيءْ لِلتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ قَبْلُ ذِكْرٌ وَلَا تِلَاوَةٌ بَعْدُ فَيُوَجَّهُ إِلَيْهِ الْخَبَرَ‏.‏

فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ‏:‏ وَالرَّحْمَنِ؛ هَذِهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ‏.‏

وَمَعْنَى ‏(‏الْحَكِيمِ‏)‏، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، “ الْمُحْكَمُ “، صُرِّفَ “ مُفْعَلٌ “ إِلَى “ فَعِيلٍ “ كَمَا قِيلَ‏:‏ ‏(‏عَذَابٌ أَلِيمٌ‏)‏، بِمَعْنَى مُؤْلِمٍ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ ***

وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْكِتَابِ‏.‏

فَمَعْنَاهُ إذًا‏:‏ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُحْكَمِ، الَّذِي أَحْكَمَهُ اللَّهُ وَبَيْنَهُ لِعِبَادِهِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ‏}‏ ‏[‏سُورَةَ هُودٍ‏:‏ 1‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ أَكَانَ عَجَبًا لِلنَّاسِ إِيحَاؤُنَا الْقُرْآنَ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ بِإِنْذَارِهِمْ عِقَابَ اللَّهِ عَلَى مَعَاصِيهِ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْحَى مِنْ قَبْلِهِ إِلَى مَثَلِهِ مِنَ الْبَشَرِ، فَتَعَجَّبُوا مِنْ وَحِينًا إِلَيْهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ عَنْ أَبِي رَوْقٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ لِمَا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا رَسُولًا أَنْكَرَتِ الْعَرَبُ ذَلِكَ، أَوْ مَنْ أَنْكَرَ مِنْهُمْ، فَقَالُوا‏:‏ اللَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ بَشَرًا مِثْلَ مُحَمَّدٍ ‏!‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ‏}‏، وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا‏}‏ ‏[‏سُورَةَ يُوسُفَ‏:‏ 109‏]‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ عَجِبَتْ قُرَيْشٌ أَنْ بُعِثَ رَجُلٌ مِنْهُمْ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَمِثْلُ ذَلِكَ‏:‏ ‏{‏وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا‏}‏ ‏[‏سُورَةَ الْأَعْرَافِ‏:‏ 65‏]‏، ‏{‏وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا‏}‏، ‏[‏سُورَةَ الْأَعْرَافِ‏:‏ 73‏]‏، قَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ‏}‏، ‏[‏سُورَةَ الْأَعْرَافِ‏:‏ 69‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ أَمَا كَانَ عَجَبًا لِلنَّاسِ أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ‏:‏ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ، وَأَنْ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولَهُ‏:‏ ‏{‏أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ‏}‏ عَطْفٌ عَلَى ‏(‏أَنْذِرْ‏)‏‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَدَمَ صِدْقٍ‏}‏، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا بِمَا قَدَّمُوا مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ‏:‏ ‏{‏أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ ثَوَابُ صِدْقٍ‏.‏

قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَجْرًا حَسَنًا بِمَا قَدَّمُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ حِبَّانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُغِيثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ صَلَاتُهُمْ وَصَوْمُهُمْ، وَصَدَقْتُهُمْ، وَتَسْبِيحُهُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏قَدَمَ صِدْقٍ‏}‏، قَالَ‏:‏ خَيْرٍ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏قَدَمَ صِدْقٍ‏}‏، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ‏:‏ ‏{‏قَدَمَ صِدْقٍ‏}‏، ثَوَابَ صِدْقٍ ‏{‏عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ‏}‏، قَالَ‏:‏ “ الْقَدَمُ الصِّدْقُ “، ثَوَابُ الصِّدْقُ بِمَا قَدَّمُوا مِنَ الْأَعْمَالِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ أَنَّ لَهُمْ سَابِقَ صِدْقٍ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مِنَ السَّعَادَةِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ فِي الذِّكْرِ الْأَوَّلِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ شَفِيعٌ لَهُمْ، قَدَمَ صِدْقٍ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ فَضِيلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَوْنِ عَنْ قَتَادَةَ أَوِ الْحَسَنِ‏:‏ ‏{‏أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ مُحَمَّدٌ شَفِيعٌ لَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏‏:‏ أَيْ سَلَفَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ أَنَّ لَهُمْ أَعْمَالًا صَالِحَةً عِنْدَ اللَّهِ يَسْتَوْجِبُونَ بِهَا مِنْهُ الثَّوَابَ‏.‏

وَذَلِكَ أَنَّهُ مَحْكِيٌّ عَنِ الْعَرَبِ‏:‏ “ هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْقَدَمِ فِي الْإِسْلَامِ “ أَيْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَدَّمُوا فِيهِ خَيْرًا، فَكَانَ لَهُمْ فِيهِ تَقْدِيمٌ‏.‏ وَيُقَالُ‏:‏ “ لَهُ عِنْدِي قَدَمُ صِدْقٍ، وَقِدَمُ سُوءٍ “ وَذَلِكَ مَا قَدَّمَ إِلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ‏:‏

لَنَا الْقَدَمُ الْعُلْيَا إِلَيْكَ وَخَلْفُنَا *** لِأَوِّلِنَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَابِعُ

وَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ‏:‏

لَكُمْ قَدَمٌ لَا يُنْكِرُ النَّاسُ أَنَّهَا *** مَعَ الْحَسَبِ الْعَادِيِّ طَمَّتْ عَلَى الْبَحْرِ

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إذًا‏:‏ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ تَقْدِمَةَ خَيْرٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ‏.‏

فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ أَيِ الْقُرْآنَ‏}‏، بِمَعْنَى‏:‏ إِنَّ هَذَا الَّذِي جِئْتَنَا بِهِ يَعْنُونَ الْقُرْآنَ لِسِحْرٍ مُبِينٍ‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ مَسْرُوقٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ‏}‏‏.‏

وَقَدْ بَيَّنْتُ فِيمَا مَضَى مِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ‏:‏ أَنَّ كُلَّ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ، يَدُلُّ الْمَوْصُوفِ عَلَى صِفَتِهِ، وَصِفَتِهِ عَلَيْهِ‏.‏

وَالْقَارِئُ مُخَيَّرٌ فِي الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ نَظِيرُ هَذَا الْحَرْفِ‏:‏ ‏{‏قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ‏}‏، وَ“ لَسَاحِرٌ مُبِينٌ “‏.‏

وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا وَصَفُوهُ بِأَنَّهُ “ سَاحِرٌ “ وَوَصْفُهُمْ مَا جَاءَهُمْ بِهِ أَنَّهُ “ سِحْرٌ “ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ وَصَفُوهُ بِالسِّحْرِ‏.‏ وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَسَوَاءٌ بِأَيِّ ذَلِكَ قَرَأَ الْقَارِئُ، لِاتِّفَاقِ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ‏.‏

وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ، اسْتُغْنِيَ بِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ عَمَّا تُرِكَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ‏:‏ “ فَلَمَّا بَشَّرَهُمْ وَأَنْذَرَهُمْ وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْوَحْيَ “ قَالَ الْكَافِرُونَ‏:‏ إِنَّ هَذَا الَّذِي جَاءَنَا بِهِ لَسِحْرٌ مُبِينٌ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إذًا‏:‏ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ‏:‏ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏؟‏ فَلَمَّا أَتَاهُمْ بِوَحْيِ اللَّهِ وَتَلَاهُ عَلَيْهِمْ، قَالَ الْمُنْكِرُونَ تَوْحِيدَ اللَّهِ وَرِسَالَةَ رَسُولِهِ‏:‏ إِنَّ هَذَا الَّذِي جَاءَنَا بِهِ مُحَمَّدٌ لِسِحْرٌ مُبِينٌ أَيْ‏:‏ يُبَيِّنُ لَكُمْ عَنْهُ أَنَّهُ مُبْطِلٌ فِيمَا يَدَّعِيهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنَّ رَبَّكُمُ الَّذِي لَهُ عِبَادَةُ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ، هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَانْفَرَدَ بِخَلْقِهَا بِغَيْرِ شَرِيكٍ وَلَا ظَهِيرٍ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ مُدَبِّرًا لِلْأُمُورِ، وَقَاضِيًا فِي خَلْقِهِ مَا أَحَبَّ، لَا يُضَادُّهُ فِي قَضَائِهِ أَحَدٌ، وَلَا يَتَعَقَّبُ تَدْبِيرَهُ مُتَعَقِّبٌ، وَلَا يَدْخُلُ أُمُورَهُ خَلَّلٌ‏.‏ ‏{‏مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَا يُشَفِّعُ عِنْدَهُ شَافِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي أَحَدٍ، إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ فِي الشَّفَاعَةِ “ ‏{‏ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ‏}‏، يَقُولُ جَلَّ جَلَالُهُ‏:‏ هَذَا الَّذِي هَذِهِ صِفَتُهُ، سَيِّدُكُمْ وَمَوْلَاكُمْ، لَا مَنْ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُدَبِّرُ وَلَا يَقْضِي مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ ‏{‏فَاعْبُدُوهُ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ فَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي هَذِهِ صِفَتُهُ، وَأَخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ، وَأَفْرِدُوا لَهُ الْأُلُوهِيَّةَ وَالرُّبُوبِيَّةَ، بِالذِّلَّةِ مِنْكُمْ لَهُ، دُونَ أَوْثَانِكُمْ وَسَائِرِ مَا تُشْرِكُونَ مَعَهُ فِي الْعِبَادَةِ ‏{‏أَفَلَا تَذَكَّرُونَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ أَفَلَا تَتَّعِظُونَ وَتَعْتَبِرُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَالْحُجَجِ، فَتُنِيبُونَ إِلَى الْإِذْعَانِ بِتَوْحِيدِ رَبِّكُمْ وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَتَخْلَعُونَ الْأَنْدَادَ وَتَبْرَؤُونَ مِنْهَا‏؟‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏يُدَبِّرُ الْأَمْرَ‏}‏، قَالَ‏:‏ يَقْضِيهِ وَحْدَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَكَّامٍ عَنْ عَنْبَسَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ‏}‏، قَالَ‏:‏ يَقْضِيهِ وَحْدَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏يُدَبِّرُ الْأَمْرَ‏}‏ قَالَ‏:‏ يَقْضِيهِ وَحْدَهُ‏.‏

قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِلَى رَبِّكُمُ الَّذِي صِفَتُهُ مَا وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ، مَعَادُكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَمِيعًا‏.‏ ‏{‏وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا‏}‏ فَأَخْرَجَ ‏{‏وَعَدَ اللَّهُ‏}‏ مُصَدَّرًا مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ‏}‏، لِأَنَّهُ فِيهِ مَعْنَى “ الْوَعْدِ “ وَمَعْنَاهُ‏:‏ يَعِدُكُمُ اللَّهُ أَنْ يُحْيِيَكُمْ بَعْدَ مَمَاتِكُمْ وَعْدًا حَقًّا، فَلِذَلِكَ نُصِبَ ‏{‏وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا‏}‏ ‏{‏إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنَّ رَبَّكُمْ يَبْدَأُ إِنْشَاءَ الْخَلْقِ وَإِحْدَاثَهُ وَإِيجَادَهُ ‏{‏ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَيُوجِدُهُ حَيًّا كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ ابْتِدَأَهُ، بَعْدَ فَنَائِهِ وَبَلَائِهِ‏.‏ كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏، قَالَ‏:‏ يُحْيِيهِ ثُمَّ يُمِيتُهُ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَحْسَبُهُ أَنَا قَالَ‏:‏ “ ثُمَّ يُحْيِيهِ “‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏، قَالَ‏:‏ يُحْيِيهِ ثُمَّ يُمِيتُهُ، ثُمَّ يُحْيِيهِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏‏:‏ يُحْيِيهِ، ثُمَّ يُمِيتُهُ، ثُمَّ يَبْدَؤُهُ، ثُمَّ يُحْيِيهِ‏.‏

قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ بِنَحْوِهِ‏.‏

وَقَرَأَتْ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ ذَلِكَ‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ‏}‏، بِكَسْرِ الْأَلْفِ مِنْ ‏(‏إِنَّهُ‏)‏ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ‏.‏

وَذُكِرَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ أَنَّهُ قَرَأَهُ ‏(‏أَنَّهُ‏)‏ بِفَتْحِ الْأَلْفِ مِنْ ‏(‏أَنَّهُ‏)‏‏.‏

كَأَنَّهُ أَرَادَ‏:‏ حَقًّا أَنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، فَـ “ أَنَّ “ حِينَئِذٍ تَكُونُ رَفْعًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

أحَقًّا عِبَادَ اللَّهِ أَنْ لَسْتُ زَائِرًا *** رُبَى جَنَّةٍ إِلَّا عَلَيَّ رَقِيبُ

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ ثُمَّ يُعِيدُهُ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِهِ كَهَيْئَتِهِ قَبْلَ مَمَاتِهِ عِنْدَ بَعْثِهِ مِنْ قَبْرِهِ ‏{‏لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ لِيُثِيبَ مَنْ صَدَّقَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَعَمِلُوا مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَاجْتَنَبُوا مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ، عَلَى أَعْمَالِهِمُ الْحَسَنَةِ ‏(‏بِالْقِسْطِ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ لِيَجْزِيَهُمْ عَلَى الْحَسَنِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الدُّنْيَا الْحَسَنَ مِنَ الثَّوَابِ، وَالصَّالِحَ مِنَ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ وَذَلِكَ هُوَ “ الْقِسْطُ “، وَ“ الْقِسْطُ “ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنْ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏بِالْقِسْطِ‏}‏، بِالْعَدْلِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ‏}‏ فَإِنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ابْتَدَأَ الْخَبَرَ عَمَّا أَعَدَّ اللَّهُ لِلَّذِينِ كَفَرُوا مِنَ الْعَذَابِ، وَفِيهِ مَعْنَى الْعَطْفِ عَلَى الْأَوَّلِ‏.‏ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَمَّ بِالْخَبَرِ عَنْ مَعَادِ جَمِيعِهِمْ، كُفَّارِهِمْ وَمُؤْمِنِيهِمْ، إِلَيْهِ‏.‏ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ إِعَادَتَهُمْ لِيَجْزِيَ كُلَّ فَرِيقٍ بِمَا عَمِلَ؛ الْمُحْسِنَ مِنْهُمْ بِالْإِحْسَانِ، وَالْمُسِيءَ بِالْإِسَاءَةِ‏.‏ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ الْخَبَرُ الْمُسْتَأْنِفُ عَمَّا أَعَدَّ لِلَّذِينِ كَفَرُوا مِنَ الْعَذَابِ، مَا يَدُلُّ سَامِعَ ذَلِكَ عَلَى الْمُرَادِ، ابْتَدَأَ الْخَبَرَ، وَالْمَعْنِيُّ الْعَطْفُ فَقَالَ‏:‏ وَالَّذِينَ جَحَدُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَكَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ‏{‏لَهُمْ شَرَابٌ‏}‏ فِي جَهَنَّمَ ‏{‏مِنْ حَمِيمٍ‏}‏ وَذَلِكَ شَرَابٌ قَدْ أُغْلِيَ وَاشْتَدَّ حَرُّهُ، حَتَّى إِنَّهُ فِيمَا ذُكِرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَتَسَاقَطُ مِنْ أَحَدِهِمْ حِينَ يُدْنِيهِ مِنْهُ فَرْوَةُ رَأْسِهِ، وَكَمَا وَصَفَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ‏}‏، ‏[‏سُورَةَ الْكَهْفِ‏:‏ 29‏]‏‏.‏

وَأَصْلُهُ‏:‏ “ مَفْعُولٌ “ صُرِّفَ إِلَى “ فَعِيلٍ “ وَإِنَّمَا هُوَ “ مَحْمُومٌ “‏:‏ أَيْ مُسَخَّنٌ، وَكُلُّ مُسَخَّنٍ عِنْدَ الْعَرَبِ فَهُوَ حَمِيمٌ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُرَقَّشِ‏:‏

وَكُلُّ يَوْمٍ لَهَا مِقْطَرَةٌ *** فِيهَا كِبَاءٌ مُعَدٌّ وَحَمِيمْ

يَعْنِي بِـ “ الْحَمِيمِ “، الْمَاءَ الْمُسَخَّنَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَلَهُمْ مَعَ ذَلِكَ عَذَابٌ مُوجِعٌ، سِوَى الشَّرَابِ مِنَ الْحَمِيمِ، بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ-‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً‏}‏، بِالنَّهَارِ ‏{‏وَالْقَمَرَ نُورًا‏}‏ بِاللَّيْلِ‏.‏ وَمَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ هُوَ الَّذِي أَضَاءَ الشَّمْسَ وَأَنَارَ الْقَمَرُ ‏{‏وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ قَضَاهُ فَسَوَّاهُ مَنَازِلَ، لَا يُجَاوِزُهَا وَلَا يَقْصُرُ دُونَهَا، عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ أَبَدًا‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ‏}‏، فَوَحَّدَهُ، وَقَدْ ذَكَرَ “ الشَّمْسَ “ وَ“ الْقَمَرَ “، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ وَجْهَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ تَكُونَ “ الْهَاءُ “ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَقَدْرَهُ‏)‏ لِلْقَمَرِ خَاصَّةً، لِأَنَّ بِالْأَهِلَّةِ يُعَرِّفُ انْقِضَاءُ الشُّهُورِ وَالسِّنِينَ، لَا بِالشَّمْسِ‏.‏

وَالْآخَرُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ اكْتَفِي بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ‏}‏، ‏[‏سُورَةَ التَّوْبَةِ‏:‏ 62‏]‏، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي *** بَرِيًّا، وَمِنْ جُولِ الطَّوِيِّ رَمَانِي

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَقَدَّرَ ذَلِكَ مَنَازِلَ ‏(‏لِتَعْلَمُوا‏)‏، أَنْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ‏{‏عَدَدَ السِّنِينَ‏}‏، دُخُولَ مَا يَدْخُلُ مِنْهَا، أَوِ انْقِضَاءَ مَا يَسْتَقْبِلُ مِنْهَا، وَحِسَابَهَا يَقُولُ‏:‏ وَحِسَابُ أَوْقَاتِ السِّنِينَ، وَعَدَدُ أَيَّامِهَا، وَحِسَابُ سَاعَاتِ أَيَّامِهَا ‏{‏مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ‏}‏، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَمَنَازِلَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ‏.‏يَقُولُ الْحَقُّ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ خَلَقْتُ ذَلِكَ كُلَّهُ بِحَقٍّ وَحْدِي، بِغَيْرِ عَوْنٍ وَلَا شَرِيكٍ ‏{‏يُفَصِّلُ الْآيَاتِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ يُبَيِّنُ الْحُجَجَ وَالْأَدِلَّةَ ‏{‏لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏، إِذَا تَدَبَّرُوهَا، حَقِيقَةَ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَصِحَّةَ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ خَلْعِ الْأَنْدَادِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الْأَوْثَانِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُنَبِّهًا عِبَادَهُ عَلَى مَوْضِعِالدَّلَالَةِ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِأَيِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ مَا دُونَهُ‏:‏ إِنَّ فِي اعْتِقَابِ اللَّيْلِ النَّهَارَ، وَاعْتِقَابِ النَّهَارِ اللَّيْلَ، إِذَا ذَهَبَ هَذَا جَاءَ هَذَا، وَإِذَا جَاءَ هَذَا ذَهَبَ هَذَا، وَفِيمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ، وَفِي الْأَرْضِ مِنْ عَجَائِبِ الْخَلْقِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ لَهَا صَانِعًا لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ‏(‏لِآيَاتٍ‏)‏، يَقُولُ‏:‏ لِأَدِلَّةً وَحُجَجًا وَأَعْلَامًا وَاضِحَةً ‏{‏لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ‏}‏ اللَّهَ، فَيَخَافُونَ وَعِيدَهُ وَيَخْشَوْنَ عِقَابَهُ عَلَى إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِرَبِّهِمْ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ أوَ لَا دَلَالَةَ فِيمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى صَانِعِهِ، إِلَّا لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ فِي ذَلِكَ الدَّلَالَةِ الْوَاضِحَةِ عَلَى صَانِعِهِ لِكُلِّ مَنْ صَحَّتْ فِطْرَتُهُ، وَبَرِئَ مِنَ الْعَاهَاتِ قَلْبُهُ‏.‏ وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ الْخَبَرَ عَنْ أَنَّ فِيهِ الدَّلَالَةَ لِمَنْ كَانَ قَدْ أَشْعَرَ نَفْسَهُ تَقْوَى اللَّهِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ‏:‏ إِنْ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِمَنِ اتَّقَى عِقَابَ اللَّهِ، فَلَمْ يَحْمِلْهُ هَوَاهُ عَلَى خِلَافِ مَا وَضَحَ لَهُ مِنَ الْحَقِّ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ كُلَّ ذِي فِطْرَةٍ صَحِيحَةٍ عَلَى أَنْ لَهُ مُدَبِّرًا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْإِذْعَانُ لَهُ بِالْعُبُودَةِ، دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنَّالَّذِينَ لَا يَخَافُونَ لِقَاءَنَامَأْوَاهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهُمْ لِذَلِكَ مُكَذِّبُونَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، مُتَنَافِسُونَ فِي زَيْنِ الدُّنْيَا وَزَخَارِفِهَا، رَاضُونَ بِهَا عِوَضًا مِنَ الْآخِرَةِ، مُطْمَئِنِّينَ إِلَيْهَا سَاكِنِينَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ وَهِيَ أَدِلَّتُهُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَحُجَجُهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ ‏(‏غَافِلُونَ‏)‏، مُعْرِضُونَ عَنْهَا لَاهُونَ، لَا يَتَأَمَّلُونَهَا تَأَمُّلَ نَاصِحٍ لِنَفْسِهِ، فَيَعْلَمُوا بِهَا حَقِيقَةَ مَا دَلَّتْهُمْ عَلَيْهِ، وَيَعْرِفُوا بِهَا بُطُولِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ ‏{‏أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ‏}‏، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَذِهِ صِفَتُهُمْ ‏(‏مَأْوَاهُمْ‏)‏، مَصِيرُهُمْ إِلَى النَّارِ نَارِ جَهَنَّمَ فِي الْآخِرَةِ ‏{‏بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏، فِي الدُّنْيَا مِنَ الْآثَامِ وَالْأَجْرَامِ، وَيَجْتَرِحُونَ مِنَ السَّيِّئَاتِ‏.‏

وَالْعَرَبُ تَقُولُ‏:‏ “ فُلَانٌ لَا يَرْجُو فُلَانًا “‏:‏ إِذَا كَانَ لَا يَخَافُهُ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا‏}‏‏.‏ ‏[‏سُورَةَ نُوحٍ‏:‏ 13‏]‏، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ‏:‏

إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا *** وَخَالَفَهَا فِي بَيْتِ نُوبِ عَوَاسِلِ

وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏وَاطْمَأَنُّوا بِهَا‏}‏، قَالَ‏:‏ هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا‏}‏، قَالَ‏:‏ هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا‏}‏ ‏[‏سُورَةَ هُودٍ‏:‏ 15‏]‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ قَوْلَهُ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ إِذَا شِئْتَ رَأَيْتَ صَاحِبَ دُنْيَا، لَهَا يَفْرَحُ، وَلَهَا يَحْزَنُ، وَلَهَا يَسْخَطُ، وَلَهَا يَرْضَى‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا‏}‏ الْآيَةَ كُلَّهَا، قَالَ‏:‏ هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْكُفْرِ‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏، إِنَّ الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ‏{‏وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏، وَذَلِكَالْعَمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِوَجَزَاؤُهُ وَالِانْتِهَاءُ إِلَى أَمْرِهِ ‏{‏يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ يُرْشِدُهُمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ‏}‏ بَلَغَنَا أَنَّ نَبِيَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ صُوِّرَ لَهُ عَمَلُهُ فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ فَيَقُولُ لَهُ‏:‏ مَا أَنْتَ‏؟‏ فَوَاللَّهِ إِنِّي لِأَرَاكَ امْرَأَ صِدْقٍ‏!‏ فَيَقُولُ‏:‏ أَنَا عَمَلُكَ‏!‏ فَيَكُونُ لَهُ نُورًا وَقَائِدًا إِلَى الْجَنَّةِ‏.‏ وَأَمَّا الْكَافِرُ إِذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ صُوِّرَ لَهُ عَمَلُهُ فِي صُورَةٍ سَيِّئَةٍ وَشَارَةٍ سَيِّئَةٍ فَيَقُولُ‏:‏ مَا أَنْتَ‏؟‏ فَوَاللَّهِ إِنِّي لِأَرَاكَ امْرَأَ سَوْءٍ‏!‏ فَيَقُولُ‏:‏ أَنَا عَمَلُكَ‏!‏ فَيَنْطَلِقُ بِهِ حَتَّى يَدْخُلَهُ النَّارَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ يَكُونُ لَهُمْ نُورًا يَمْشُونَ بِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ‏.‏ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ ‏{‏يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ يُمَثَّلُ لَهُ عَمَلُهُ فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ وَرِيحٍ طَيِّبَةٍ، يُعَارِضُ صَاحِبَهُ وَيُبَشِّرُهُ بِكُلِّ خَيْرٍ، فَيَقُولُ لَهُ‏:‏ مَنْ أَنْتَ‏؟‏ فَيَقُولُ‏:‏ أَنَا عَمَلُكَ‏!‏ فَيُجْعَلُ لَهُ نُورًا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ حَتَّى يَدْخُلَهُ الْجَنَّةَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ‏}‏‏.‏ وَالْكَافِرُ يَمْثُلُ لَهُ عَمَلُهُ فِي صُورَةٍ سَيِّئَةٍ وَرِيحٍ مُنْتِنَةٍ، فَيُلَازِمُ صَاحِبَهُ وَيُلَازُّهُ حَتَّى يَقْذِفَهُ فِي النَّارِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ بِإِيمَانِهِمْ، يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ لِدِينِهِ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ بِتَصْدِيقِهِمْ هَدَاهُمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ صِفَتَهُمْ، أَنْهَارُ الْجَنَّةِ ‏{‏فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ‏}‏، يَقُولُ فِي بَسَاتِينِ النَّعِيمِ، الَّذِي نَعَّمَ اللَّهُ بِهِ أَهِلَ طَاعَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَكَيْفَ قِيلَ‏:‏ ‏{‏تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ‏}‏، وَإِنَّمَا وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ أَنَّهَا تَجْرِي تَحْتَ الْجَنَّاتِ‏؟‏ وَكَيْفَ يُمْكِنُ الْأَنْهَارُ أَنْ تَجْرِيَ مِنْ تَحْتِهِمْ، إِلَّا أَنْ يَكُونُوا فَوْقَ أَرْضِهَا وَالْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ أَرْضِهَا‏؟‏ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ صِفَةِ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، لِأَنَّ صِفَتَهَا أَنَّهَا تَجْرِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فِي غَيْرِ أَخَادِيدَ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّ مَعْنًى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إِلَيْهِ ذَهَبْتَ، وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ تَجْرِي مِنْ دُونِهِمُ الْأَنْهَارُ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فِي بَسَاتِينِ النَّعِيمِ، وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا‏}‏ ‏[‏سُورَةَ مَرْيَمَ‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ “ السِّرِيَّ “ تَحْتَهَا وَهِيَ عَلَيْهِ قَاعِدَةٌ إِذْ كَانَ “ السِّرِيُّ “ هُوَ الْجَدْوَلُ وَإِنَّمَا عُنِيَ بِهِ‏:‏ جَعَلَ دُونَهَا‏:‏ بَيْنَ يَدَيْهَا، وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ فِرْعَوْنَ، ‏{‏أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي‏}‏، ‏[‏سُورَةَ الزُّخْرُفِ‏:‏ 51‏]‏، بِمَعْنَى‏:‏ مِنْ دُونِي، بَيْنَ يَدَيَّ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ‏}‏، فَإِنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ دُعَاؤُهُمْ فِيهَا‏:‏ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ أُخْبِرْتُ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ‏}‏، قَالَ‏:‏ إِذَا مَرَّ بِهِمُ الطَّيْرُ يَشْتَهُونَهُ

قَالُوا‏:‏ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ‏!‏ وَذَلِكَ دَعْوَاهُمْ، فَيَأْتِيهِمُ الْمَلِكُ بِمَا اشْتَهَوْا، فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ‏}‏‏.‏ قَالَ‏:‏ فَإِذَا أَكَلُوا حَمِدُوا اللَّهَ رَبَّهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِيهَا ‏{‏وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ الْأَشْجَعِيُّ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ سُفْيَانَ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ إِذَا أَرَادُوا الشَّيْءَ قَالُوا‏:‏ “ اللَّهُمَّ “، فَيَأْتِيهِمْ مَا دَعَوْا بِهِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ‏}‏، فَإِنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ تَنْزِيهًا لَكَ، يَا رَبِّ، مِمَّا أَضَافَ إِلَيْكَ أَهْلُ الشِّرْكِ بِكَ، مِنَ الْكَذِبِ عَلَيْكَ وَالْفِرْيَةِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبِي‏.‏ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ عَطِيَّةٌ فِيهِمْ‏:‏ “ سُبْحَانَ اللَّهِ “ تَنْزِيهٌ لِلَّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهِبٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ قَالَ‏:‏ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ “ سُبْحَانَ اللَّهِ “ قَالَ‏:‏ إِبْرَاءُ اللَّهِ عَنِ السُّوءِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَأَبُو السَّائِبِ وَخَلَّادِ بْنِ أَسْلَمَ قَالُوا، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا قَابُوسٌ عَنْ أَبِيهِ‏:‏ أَنِ ابْنِ الْكَوَّاءِ سَأَلَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ “ سُبْحَانَ اللَّهِ “، قَالَ‏:‏ كَلِمَةٌ رَضِيَهَا اللَّهُ لِنَفْسِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي نَصْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَوِدَيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهِبٍ الطِّلْحِيِّ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ‏:‏ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ “ سُبْحَانَ اللَّهِ “ فَقَالَ‏:‏ تَنْزِيهًا لِلَّهِ عَنِ السُّوءِ‏.‏

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْبَزَّارُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمَّادٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ‏:‏ «سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَفْسِيرِ “ سُبْحَانَ اللَّهِ “، فَقَالَ‏:‏ هُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ مِنْ كُلِّ سُوءٍ»‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ تَمَامٍ الْكَلْبِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَيُّوبَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ «قَالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَوْلُ “ سُبْحَانَ اللَّهِ “‏؟‏ قَالَ‏:‏ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنِ السُّوء»‏.‏

‏{‏وَتَحِيَّتُهُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَتَحِيَّةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا ‏{‏فِيهَا سَلَامٌ‏}‏، أَيْ‏:‏ سَلِمْتَ وَأَمِنْتَ مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ أَهْلُ النَّارِ‏.‏

وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْمَلِكَ “ التَّحِيَّةَ “، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ‏:‏

أَزُورُ بِهَا أَبَا قَابُوسَ حَتَّى *** أُنِيخَ عَلَى تَحِيَّتِهِ بِجُنْدِي

وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ جَنَابٍ الْكَلْبِيِّ‏:‏

مِنْ كُلِّ مَا نَالَ الْفَتَى *** قَدْ نِلْتُهُ إِلَّا التَّحِيَّهْ

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَآخِرُ دُعَائِهِمْ ‏{‏أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَآخِرُ دُعَائِهِمْ أَنْ يَقُولُوا‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ “، وَلِذَلِكَ خُفِّفَتْ “ أَنْ “ وَلَمْ تُشَدَّدْ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا الْحِكَايَةُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ إِجَابَةَ دُعَائِهِمْ فِي الشَّرِّلَهَلَكُوا، وَذَلِكَ فِيمَا عَلَيْهِمْ مَضَرَّةٌ فِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ ‏{‏اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ كَاسْتِعْجَالِهِ لَهُمْ فِي الْخَيْرِ بِالْإِجَابَةِ إِذَا دَعَوْهُ بِهِ ‏{‏لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَهَلَكُوا، وَعُجِّلَ لَهُمُ الْمَوْتُ، وَهُوَ الْأَجَلُ‏.‏

وَعَنَى بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏لَقُضِيَ‏)‏، لَفُرِغَ إِلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِهِمْ، وَنُبِذَ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ‏:‏

وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا *** دَاوُدُ، أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ

‏{‏فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا‏}‏، يَقُولُ‏:‏

فَنَدَعُ الَّذِينَ لَا يَخَافُونَ عِقَابَنَا، وَلَا يُوقِنُونَ بِالْبَعْثِ وَلَا بِالنُّشُورِ، ‏{‏فِي طُغْيَانِهِمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ فِي تَمَرُّدِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ، ‏(‏يَعْمَهُونَ‏)‏ يَعْنِي‏:‏ يَتَرَدَّدُونَ‏.‏

وَإِنَّمَا أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ بِالْبَعْثِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُمْ، مِنْ طُغْيَانِهِمْ وَتَرَدُّدِهِمْ فِيهِ عِنْدَ تَعْجِيلِهِ إِجَابَةَ دُعَائِهِمْ فِي الشَّرِّ لَوِ اسْتَجَابَ لَهُمْ، أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّقَرُّبِ إِلَى الْوَثَنِ الَّذِي يُشْرِكُ بِهِ أَحَدَهُمْ، أَوْ يُضِيفُ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ مِنْ فِعْلِهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ‏}‏، قَالَ‏:‏ قَوْلُ الْإِنْسَانِ إِذَا غَضِبَ لِوَلَدِهِ وَمَالِهِ‏:‏ “ لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيهِ وَلَعَنَهُ “‏!‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ‏}‏، قَالَ‏:‏ قَوْلُ الْإِنْسَانِ لِوَلَدِهِ وَمَالِهِ إِذَا غَضِبَ عَلَيْهِ‏:‏ “ اللَّهُمَّ لَا تُبَارِكُ فِيهِ وَالْعَنْهُ “‏!‏ فَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ الِاسْتِجَابَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، كَمَا يُسْتَجَابُ فِي الْخَيْرِ لَأَهْلَكَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ‏}‏، قَالَ‏:‏ قَوْلُ الْإِنْسَانِ لِوَلَدِهِ وَمَالِهِ إِذَا غَضِبَ عَلَيْهِ‏:‏ “ اللَّهُمَّ لَا تُبَارِكُ فِيهِ وَالْعَنْهُ “ ‏{‏لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ لَأَهْلَكَ مَنْ دَعَا عَلَيْهِ وَلَأَمَاتَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ‏}‏، قَالَ‏:‏ قَوْلُ الرَّجُلِ لِوَلَدِهِ إِذَا غَضِبَ عَلَيْهِ أَوْ مَالِهِ‏:‏ “ اللَّهُمَّ لَا تُبَارِكُ فِيهِ وَالْعَنْهُ “‏!‏ قَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ لَأَهْلَكَ مَنْ دَعَا عَلَيْهِ وَلَأَمَاتَهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ ‏{‏فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا‏}‏، قَالَ يَقُولُ‏:‏ لَا نُهْلِكُ أَهْلَ الشِّرْكِ، وَلَكِنْ نَذْرَهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِِ الْأَعْلَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ‏}‏، قَالَ‏:‏ هُوَ دُعَاءُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ بِمَا يَكْرَهُ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ لَأَهْلَكْنَاهُمْ‏.‏ وَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ‏}‏، ‏[‏سُورَةَ فَاطِرٍ‏:‏ 45‏]‏‏.‏ قَالَ‏:‏ يُهْلِكُهُمْ كُلَّهُمْ‏.‏

وَنُصِبَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏اسْتِعْجَالَهُمْ‏}‏، بِوُقُوعِ ‏(‏يُعَجِّلُ‏)‏ عَلَيْهِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ “ قُمْتُ الْيَوْمَ قِيَامَكَ “ بِمَعْنَى‏:‏ قُمْتُ كَقِيَامِكَ، وَلَيْسَ بِمُصَدِّرٍ مِنْ ‏(‏يُعَجِّلُ‏)‏، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُصَدِّرًا لَمْ يَحْسُنْ دُخُولُ “ الْكَافِ “ أَعْنِي كَافَ التَّشْبِيهِ فِيهِ‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ‏}‏‏.‏

فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ‏:‏ ‏{‏لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ‏}‏، عَلَى وَجْهِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، بِضَمِّ الْقَافِ مَنْ “ قُضِيَ “ وَرَفْعِ “ الْأَجَلُ “‏.‏

وَقَرَأَ عَامَّةُ أَهْلِ الشَّامِ‏:‏ ‏(‏لَقَضَى إِلَيْهِمْ أَجَلَهُمْ‏)‏، بِمَعْنَى‏:‏ لَقَضَى اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَجَلَهُمْ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهُمَا قِرَاءَتَانِ مُتَّفِقَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، غَيْرَ أَنِّي أَقْرَؤُهُ عَلَى وَجْهِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، لِأَنَّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ الْقُرَّاءِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَإِذَا أَصَابَ الْإِنْسَانَ الشَّدَّةُ وَالْجَهْدُ ‏{‏دَعَانَا لِجَنْبِهِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ اسْتَغَاثَ بِنَا فِي كَشْفِ ذَلِكَ عَنْهُ ‏(‏لِجَنْبِهِ‏)‏، يَعْنِي مُضْطَجِعًا لِجَنْبِهِ‏.‏ ‏{‏أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا‏}‏ بِالْحَالِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا عِنْدَ نُزُولِ ذَلِكَ الضُّرِّ بِهِ ‏{‏فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ فَلَمَّا فَرَّجْنَا عَنْهُ الْجَهْدَ الَّذِي أَصَابَهُ ‏{‏مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ اسْتَمَرَّ عَلَى طَرِيقَتِهِ الْأُولَى قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهُ الضُّرُّ، وَنَسِيَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْجَهْدِ وَالْبَلَاءِ أَوْ تَنَاسَاهُ، وَتَرَكَ الشُّكْرَ لِرَبِّهِ الَّذِي فَرَّجَ عَنْهُ مَا كَانَ قَدْ نَزَلَ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ حِينَ اسْتَعَاذَ بِهِ، وَعَادَ لِلشِّرْكِ وَدَعْوَى الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ أَرْبَابًا مَعَهُ‏.‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ كَمَا زُيِّنَ لِهَذَا الْإِنْسَانِ الَّذِي وَصَفْنَا صِفَتَهُ، اسْتِمْرَارُهُ عَلَى كُفْرِهِ بَعْدَ كَشْفِ اللَّهِ عَنْهُ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الضُّرِّ، كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلَّذِينِ أَسْرَفُوا فِي الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى أَنْبِيَائِهِ، فَتَجَاوَزُوا فِي الْقَوْلِ فِيهِمْ إِلَى غَيْرِ مَا أَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ بِهِ، مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ وَالشَّرَكِ بِهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏دَعَانَا لِجَنْبِهِ‏}‏، قَالَ‏:‏ مُضْطَجِعًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْأُمَمَ الَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَ اللَّهِمِنْ قَبْلِكُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ بِرَبِّهِمْ ‏{‏لَمَّا ظَلَمُوا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لِمَا أَشْرَكُوا وَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ ‏{‏وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ‏}‏ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، ‏{‏بِالْبَيِّنَاتِ‏}‏، وَهِيَ الْآيَاتُ وَالْحُجَجُ الَّتِي تُبَيِّنُ عَنْ صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهَا‏.‏

وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ أَنَّهَا حَقٌّ ‏{‏وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأُمَمُ الَّتِي أَهْلَكْنَاهَا لِيُؤْمِنُوا بِرُسُلِهِمْ وَيُصَدِّقُوهُمْ إِلَى مَا دَعَوْهُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ ‏{‏وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ‏}‏، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ كَمَا أَهْلَكْنَا هَذِهِ الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ، أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ، بِظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ، وَتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ، وَرَدِّهِمْ نَصِيحَتَهُمْ، كَذَلِكَ أَفْعَلُ بِكُمْ فَأُهْلِكُكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ بِتَكْذِيبِكُمْ رَسُولَكُمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَظُلْمِكُمْ أَنْفُسَكُمْ بِشِرْكِكُمْ بِرَبِّكُمْ، إِنْ أَنْتُمْ لَمْ تُنِيبُوا وَتَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ مِنْ شِرْكِكُمْ فَإِنَّ مِنْ ثَوَابِ الْكَافِرِ بِي عَلَى كُفْرِهِ عِنْدِي، أَنْ أُهْلِكَهُ بسَخَطِي فِي الدُّنْيَا، وَأُورِدَهُ النَّارَ فِي الْآخِرَةِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، خَلَائِفَ مِنْ بَعْدِ هَؤُلَاءِ الْقُرُونِ الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ لِمَا ظَلَمُوا، تُخَلِّفُونَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَتَكُونُونَ فِيهَا بَعْدَهُمْ ‏{‏لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لِيَنْظُرَ رَبُّكُمْ أَيْنَ عَمَلُكُمْ مِنْ عَمَلِ مَنْ هَلَكَ مَنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْأُمَمِ بِذُنُوبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ، تَحْتَذُونَ مِثَالَهُمْ فِيهِ، فَتَسْتَحِقُّونَ مِنَ الْعِقَابِ مَا اسْتَحَقُّوا، أَمْ تُخَالِفُونَ سَبِيلَهُمْ فَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُقِرُّونَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ، فَتَسْتَحِقُّونَ مِنْ رَبِّكُمُ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَقَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ‏}‏، ذُكِرَ لَنَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ‏:‏ صَدَقَ رَبُّنَا، مَا جَعَلَنَا خُلَفَاءَ إِلَّا لِيَنْظُرَ كَيْفَ أَعْمَالُنَا، فَأَرُوا اللَّهَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ خَيْرًا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ عَوْفٍ أَبُو رَبِيعَةَ فَهْدٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى‏:‏ أَنْ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّ سَبَبًا دُلِّيَ مِنَ السَّمَاءِ، فَانْتُشِطَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ دُلِّيَ فَانْتُشِطَ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ ذُرِعَ النَّاسُ حَوْلَ الْمِنْبَرِ،

فَفَضَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِثَلَاثِ أَذْرُعٍ إِلَى الْمِنْبَرِ‏.‏ فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ دَعْنَا مِنْ رُؤْيَاكَ، لَا أَرَبَ لَنَا فِيهَا‏!‏ فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ قَالَ‏:‏ يَا عَوْفُ رُؤْيَاكَ‏!‏ قَالَ‏:‏ وَهَلْ لَكَ فِي رُؤْيَايَ مِنْ حَاجَةٍ‏؟‏ أَوَ لَمْ تَنْتَهِرْنِي‏!‏ قَالَ‏:‏ وَيَحَكَّ‏!‏ إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ تَنْعَى لِخَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ‏!‏ فَقَصَّ عَلَيْهِ الرُّؤْيَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَ‏:‏ “ ذُرِعَ النَّاسُ إِلَى الْمِنْبَرِ بِهَذِهِ الثَّلَاثِ الْأَذْرُعِ “، قَالَ‏:‏ أَمَّا إِحْدَاهُنَّ، فَإِنَّهُ كَائِنٌ خَلِيفَةً‏.‏ وَأَمَّا الثَّانِيَةُ، فَإِنَّهُ لَا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ‏.‏ وَأَمَّا الثَّالِثَةُ، فَإِنَّهُ شَهِيدٌ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَقَالَ يَقُولُ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ‏}‏، فَقَدِ اسْتُخْلِفْتَ يَا ابْنَ أُمِّ عُمَرَ فَانْظُرْ كَيْفَ تَعْمَلُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ “ فَإِنِّي لَا أَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ “ فَمَا شَاءَ اللَّهُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ “ فَإِنِّي شَهِيدٌ “ فَأَنَّى لِعُمَرَ الشَّهَادَةُ، وَالْمُسْلِمُونَ مُطِيفُونَ بِهِ‏!‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَاائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَإِذَا قُرِئَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ آيَاتُ كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ، يَا مُحَمَّدُ ‏(‏بَيِّنَاتٍ‏)‏، وَاضِحَاتٍ، عَلَى الْحَقِّ دَالَاتٍ ‏{‏قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ قَالَ الَّذِينَ لَا يَخَافُونَ عِقَابَنَا، وَلَا يُوقِنُونَ بِالْمَعَادِ إِلَيْنَا، وَلَا يُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ، لَكَ ‏{‏ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ أَوْ غَيِّرْهُ ‏(‏قُلْ‏)‏ لَهُمْ، يَا مُحَمَّدُ ‏{‏مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي‏}‏، أَيْ‏:‏ مِنْ عِنْدِي‏.‏

وَالتَّبْدِيلُ الَّذِي سَأَلُوهُ، فِيمَا ذُكِرَ، أَنْ يُحَوِّلَ آيَةَ الْوَعِيدِ آيَةَ وَعْدٍ، وَآيَةَ الْوَعْدِ وَعِيدًا وَالْحَرَامَ حَلَالًا وَالْحَلَالَ حَرَامًا، فَأَمْرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخْبِرَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إِلَيْهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ إِلَى مَنْ لَا يُرَدُّ حُكْمُهُ، وَلَا يُتَعَقَّبُ قَضَاؤُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ رَسُولٌ مُبَلِّغٌ وَمَأْمُورٌ مُتَّبَعٌ‏.‏

وَقَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ قُلْ لَهُمْ‏:‏ مَا أَتْبَعُ فِي كُلِّ مَا آمُرُكُمْ بِهِ أَيُّهَا الْقَوْمُ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْهُ، إِلَّا مَا يُنَزِّلُهُ إِلَيَّ رَبِّي، وَيَأْمُرُنِي بِهِ ‏{‏إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ إِنِّي أَخْشَى مِنَ اللَّهِ إِنْ خَالَفَتْ أَمْرَهُ، وَغَيَّرَتُ أَحْكَامَ كِتَابِهِ، وَبَدَّلْتُ وَحْيَهُ، فَعَصَيْتُهُ بِذَلِكَ، عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٌ هَوْلُهُ، وَذَلِكَ‏:‏ يَوْمُ تَذْهَلُ كُلُّ مِرْضَعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ، مُعَرِّفَهُ الْحُجَّةَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا لَهُ‏:‏ ‏{‏ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ‏}‏ ‏(‏قُلْ‏)‏ لَهُمْ، يَا مُحَمَّدُ ‏{‏لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ‏}‏، أَيْ‏:‏ مَا تَلَوْتُ هَذَا الْقُرْآنَ عَلَيْكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، بِأَنْ كَانَ لَا يُنَزِّلُهُ عَلِيَّ فَيَأْمُرُنِي بِتِلَاوَتِهِ عَلَيْكُمْ ‏{‏وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَلَا أُعْلِمُكُمْ بِهِ ‏{‏فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَقَدْ مَكَثْتُ فِيكُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ أَتْلُوَهُ عَلَيْكُمْ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ يُوحِيَهُ إِلَيَّ رَبِّي ‏{‏أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏}‏، أَنِّي لَوْ كُنْتُ مُنْتَحِلًا مَا لَيْسَ لِي مِنَ الْقَوْلِ، كُنْتُ قَدِ انْتَحَلْتُهُ فِي أَيَّامِ شَبَابِي وَحَدَاثَتِي، وَقَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ‏؟‏ فَقَدْ كَانَ لِي الْيَوْمَ، لَوْ لَمْ يُوحَ إِلَيَّ وَأُومِرْ بِتِلَاوَتِهِ عَلَيْكُمْ، مَنْدُوحَةٌ عَنْ مُعَادَاتِكُمْ، وَمُتَّسَعٌ، فِي الْحَالِ الَّتِي كُنْتُ بِهَا مِنْكُمْ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيَّ وَأُومِرَ بِتِلَاوَتِهِ عَلَيْكُمْ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةٌ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ‏}‏، وَلَا أَعْلَمَكُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يُعْلِمْكُمُوهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ مَا حَذَّرَتْكُمْ بِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ‏}‏، وَهُوَ قَوْلُ مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏}‏، لَبِثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ‏}‏ وَلَا أُعْلِمُكُمْ بِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ‏:‏ ‏{‏وَلَا أَدْرَأْتُكُمْ بِهِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ مَا أَعْلَمَتْكُمْ بِهِ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ، أَخْبَرْنَا عُبَيْدٌ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَلَا أَشْعَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ الَّتِي حَكَيْتُ عَنِ الْحَسَنِ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ غَلَطٌ‏.‏

وَكَانَ الْفَرَّاءُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ‏:‏ قَدْ ذَكَرَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَا أَدْرَأْتُكُمْ بِهِ‏}‏‏.‏ قَالَ‏:‏ فَإِنْ يَكُنْ فِيهَا لُغَةٌ سِوَى “ دَرَيْتُ “ وَ“ أَدْرَيْتُ “ فَلَعَلَّ الْحَسَنَ ذَهَبَ إِلَيْهَا‏.‏ وَأَمَّا أَنْ تَصْلُحَ مِنْ “ دَرَيْتُ “ أَوْ“ أَدْرَيْتُ “ فَلَا لِأَنَّ الْيَاءَ وَالْوَاوَ إِذَا انْفَتَحَ مَا قَبْلَهُمَا وَسَكَنَتَا صَحَّتَا وَلَمْ تَنْقَلِبَا إِلَى أَلْفٍ، مِثْلُ “ قَضَيْتُ “ وَ“ دَعَوْتُ “‏.‏ وَلَعَلَّ الْحَسَنَ ذَهَبَ إِلَى طَبِيعَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ فَهَمَزَهَا، لِأَنَّهَا تُضَارِعُ “ دَرَأَتِ الْحَدَّ “ وَشِبْهَهُ‏.‏ وَرُبَّمَا غَلِطَتِ الْعَرَبُ فِي الْحَرْفِ إِذَا ضَارَعَهُ آخِرُ مَنِ الْهَمْزِ فَيَهْمِزُونَ غَيْرَ الْمَهْمُوزِ‏.‏ وَسَمِعْتُ امْرَأَةً مِنْ طَيٍّ تَقُولُ‏:‏ “ رَثَأْتُ زَوِّجِي بِأَبْيَاتٍ“ وَيَقُولُونَ‏:‏ “ لَبَّأْتُ بِالْحَجِّ “ وَ“ حَلَأَتِ السَّوِيقَ “، فَيَغْلَطُونَ؛ لِأَنَّ“ حَلَأْتَ “ قَدْ يُقَالُ فِي دَفْعِ الْعِطَاشِ، مِنَ الْإِبِلِ، وَ“ لَبَأْتُ “‏:‏ ذَهَبْتُ بِهِ إِلَى “ اللِّبَأِ “ لِبَأ الشَّاءِ، وَ“ رَثَأْتُ زَوْجِي “ ذَهَبْتُ بِهِ إِلَى‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏“رَثَأْتُ اللَّبَنَ “ إِذَا أَنْتِ حَلَبَتِ الْحَلِيبَ عَلَى الرَّائِبِ، فَتِلْكَ “ الرَّثِيثَةُ “‏.‏

وَكَانَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ يَقُولُ‏:‏ لَا وَجْهَ لِقِرَاءَةِ الْحَسَنِ هَذِهِ لِأَنَّهَا مِنْ “ أَدْرَيْتُ “ مِثْلُ “ أَعْطَيْتُ “ إِلَّا أَنَّ لُغَةً لِبَنِي عَقِيلٍ‏:‏ “ أعطَأتُ “ يُرِيدُونَ‏:‏ “ أَعْطَيْتُ “ تُحَوِّلُ الْيَاءَ أَلْفًا، قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

لَقَدْ آذَنَتْ أَهْلُ الْيَمَامَةِ طَيِّئٌ *** بِحَرْبٍ كَنَاصَاةِ الْأَغَرِّ الْمُشَهَّرِ

يُرِيدُ‏:‏ كَنَاصِيَةٍ، حُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الْمُفَضِّلِ وَقَالَ زَيْدُ الْخَيْلِ‏:‏

لَعَمْرُكَ مَا أَخْشَى التَّصَعْلُكَ مَا بَقَا *** عَلَى الْأَرْضِ قَيْسِيٌّ يَسُوقُ الْأَبَاعِرَا

فَقَالَ “ بَقَا “ وَقَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

لَزَجَرْتُ قَلْبًا لَا يَرِيعُ لِزَاجِرٍ *** إِنَّ الْغَوِيَّ إِذَا نُهَا لَمْ يَعْتِبِ

يُرِيدُ “ نُهِيَ “‏.‏ قَالَ‏:‏ وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى قِرَاءَةِ الْحَسَنِ وَهِيَ مَرْغُوبٌ عَنْهَا، قَالَ‏:‏ وَطَيِّئٌ تُصَيِّرُ كُلُّ يَاءٍ انْكَسَرَ مَا قَبْلَهَا أَلْفًا، يَقُولُونَ‏:‏ “ هَذِهِ جَارَاةٌ “

وَفِي “ التَّرْقُوَةِ “ “ تَرْقاَةٌ “ وَ“ الْعَرْقُوَةِ “ “ عَرْقَاةٌ“‏.‏ قَالَ‏:‏ وَقَالَ بَعْضُ طَيِّئٍ‏:‏ “ قَدْ لَقَتْ فَزَارَةَ“، حَذَفَ الْيَاءِ مِنْ “ لَقِيَتْ “ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُحَوِّلَهَا أَلْفًا، لِسُكُونِ التَّاءِ، فَيَلْتَقِي سَاكِنَانِ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ زَعَمَ يُونُسُ أَنَّ “ نَسَا “ وَ“ رَضَا “ لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

وَأُنْبِئْتُ بِالْأَعْرَاضِ ذَا الْبَطْنِ خَالِدًا *** نَسَا أَوْ تَنَاسَى أَنْ يَعُدَّ الْمَوَالِيَا

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِرَاءَةٍ ذَلِكَ أَيْضًا رِوَايَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ مَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِهِ الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْمُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ حَنْظَلَةَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ‏:‏ ‏{‏قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْذَرْتُكُمْ بِهِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا نَسْتَجِيزُ أَنْ نَعْدُوَهَا، هِيَ الْقِرَاءَةُ الَّتِي عَلَيْهَا قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ‏:‏ ‏{‏قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ‏}‏، بِمَعْنَى‏:‏ وَلَا أَعْلَمَكُمْ بِهِ، وَلَا أَشْعَرَكُمْ بِهِ‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ نَسَبُوكَ فِيمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ إِلَى الْكَذِبِ‏:‏ أَيُّ خَلْقٍ أَشَدُّ تَعَدِّيًا، وَأَوْضَعَ لِقِيلِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، مِمَّنِ اخْتَلَقَ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، وَافْتَرَى عَلَيْهِ بَاطِلًا ‏{‏أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ‏}‏ يَعْنِي بِحُجَجِهِ وَرُسُلِهِ وَآيَاتِ كِتَابِهِ‏؟‏ يَقُولُ لَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ قُلْ لَهُمْ‏:‏ لَيْسَ الَّذِي أَضَفْتُمُونِي إِلَيْهِ بِأَعْجَبَ مِنْ كَذِبِكُمْ عَلَى رَبِّكُمْ، وَافْتِرَائِكُمْ عَلَيْهِ، وَتَكْذِيبِكُمْ بِآيَاتِهِ ‏{‏إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ إِنَّهُ لَا يَنْجَحُ الَّذِينَ اجْتَرَمُوا الْكُفْرَ فِي الدُّنْيَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذَا لَقُوا رَبَّهُمْ، وَلَا يَنَالُونَ الْفَلَاحَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَيَعْبُدُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكَ، يَا مُحَمَّدُ صِفَتَهُمْ، مِنْ دُونِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّهُمْ شَيْئًا وَلَا يَنْفَعُهُمْ، فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْآلِهَةُ وَالْأَصْنَامُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا ‏{‏وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا رَجَاءَ شَفَاعَتِهَا عِنْدَ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ‏:‏ ‏(‏قُلْ‏)‏ لَهُمْ ‏{‏أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ أَتُخَبِّرُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَكُونُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ‏؟‏ وَذَلِكَ أَنَّ الْآلِهَةَ لَا تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ‏.‏ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ‏.‏ فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ‏:‏ قُلْ لَهُمْ‏:‏ أَتُخَبِّرُونَ اللَّهَ أَنَّ مَا لَا يَشْفَعُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ يَشْفَعُ لَكُمْ فِيهِمَا‏؟‏ وَذَلِكَ بَاطِلٌ لَا تُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ وَصِحَّتُهُ، بَلْ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ خِلَافَ مَا تَقُولُونَ، وَأَنَّهَا لَا تَشْفَعُ لِأَحَدٍ، وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ ‏{‏سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ تَنْزِيهًا لِلَّهِ وَعُلُوًّا عَمَّا يَفْعَلُهُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ، مِنْ إِشْرَاكِهِمْ فِي عِبَادَتِهِ مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَافْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ الْكَذِبَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أَهْلَ دِينٍ وَاحِدٍ وَمِلَّةٍ وَاحِدَةٍ فَاخْتَلَفُوا فِي دِينِهِمْ، فَافْتَرَقَتْ بِهِمُ السُّبُلُ فِي ذَلِكَ ‏{‏وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَلَوْلَا أَنَّهُ سَبَقَ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُهْلِكُ قَوْمًا إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ “ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ “ يَقُولُ‏:‏ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِأَنْ يُهْلِكَ أَهْلَ الْبَاطِلِ مِنْهُمْ، وَيُنْجِيَ أَهْلَ الْحَقِّ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ فِي “ سُورَةِ الْبَقَرَةِ “ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ‏}‏، ‏[‏سُورَةَ الْبَقَرَةِ‏:‏ 213‏]‏، وَبَيَّنَّا الصَّوَابَ مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ بِشَوَاهِدِهِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنْ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا‏}‏، حِينَ قَتَلَ أَحَدُ ابْنَيْ آدَمَ أَخَاهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ‏:‏ هَلَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ يَقُولُ‏:‏ عِلْمٌ وَدَلِيلٌ نَعْلَمُ بِهِ أَنَّ مُحَمَّدًا مُحِقٌّ فِيمَا يَقُولُ‏؟‏ قَالَ اللَّهُ لَهُ‏:‏ ‏(‏فَقُلْ‏)‏ يَا مُحَمَّدُ ‏{‏إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ‏}‏، أَيْ‏:‏ لَا يُعَلِّمُ أَحَدٌ يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا هُوَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ وَهُوَ السِّرُّ وَالْخَفِيُّ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا اللَّهُ، فَانْتَظَرُوا أَيُّهَا الْقَوْمُ، قَضَاءَ اللَّهِ بَيْنَنَا، بِتَعْجِيلِ عُقُوبَتِهِ لِلْمُبْطِلِ مِنَّا، وَإِظْهَارِهِ الْمُحِقَّ عَلَيْهِ، إِنِّي مَعَكُمْ مِمَّنْ يَنْتَظِرُ ذَلِكَ‏.‏ فَفَعَلَ ذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فَقَضَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ بِأَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِالسَّيْفِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَإِذَا رَزَقْنَا الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ فَرَجًا بَعْدَ كَرْبٍ، وَرَخَاءً بَعْدَ شِدَّةٍ أَصَابَتْهُمْ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ عَنَى بِهِ الْمَطَرَ بَعْدَ الْقَحْطِ‏.‏ وَ“ الضَّرَّاءُ “‏:‏ هِيَ الشِّدَّةُ، وَ“ الرَّحْمَةُ “‏:‏ هِيَ الْفَرَجُ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا‏}‏، اسْتِهْزَاءٌ وَتَكْذِيبٌ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا‏}‏ قَالَ‏:‏ اسْتِهْزَاءٌ وَتَكْذِيبٌ‏.‏

قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏(‏قُلْ‏)‏ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُسْتَهْزِئِينَ مِنْ حُجَجِنَا وَأَدِلَّتِنَا، يَا مُحَمَّدُ ‏{‏اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا‏}‏، أَيْ‏:‏ أَسْرِعْ مِحَالًا بِكُمْ، وَاسْتِدْرَاجًا لَكُمْ وَعُقُوبَةً، مِنْكُمْ، مِنَ الْمَكْرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ‏.‏

وَالْعَرَبُ تَكْتَفِي بِـ “ إِذَا “ مِنْ “ فَعَلْتُ “ وَ“ فَعَلَّوْا “ فَلِذَلِكَ حُذِفَ الْفِعْلُ مَعَهَا‏.‏ وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ‏}‏، مَكَرُوا فِي آيَاتِنَا فَاكْتَفَى مِنْ “ مَكَرُوا “ بِـ “ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ “‏.‏

‏{‏إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ إِنْ حَفَظَتَنَا الَّذِينَ نُرْسِلُهُمْ إِلَيْكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، يَكْتُبُونَ عَلَيْكُمْ مَا تَمْكُرُونَ فِي آيَاتِنَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ اللَّهُ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، فِي الْبَرِّ عَلَى الظَّهْرِ وَفِي الْبَحْرِ فِي الْفُلْكِ ‏{‏حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ‏}‏، وَهِيَ السُّفُنُ ‏{‏وَجَرَيْنَ بِهِمْ‏}‏ يَعْنِي‏:‏ وَجَرَتِ الْفَلَكُ بِالنَّاسِ ‏{‏بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ‏}‏، فِي الْبَحْرِ ‏{‏وَفَرِحُوا بِهَا‏}‏، يَعْنِي‏:‏ وَفَرِحَ رَكِبَانُ الْفُلْكِ بِالرِّيحِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي يَسِيرُونَ بِهَا‏.‏

وَ“ الْهَاءُ “ فِي قَوْلِهِ‏:‏ “ بِهَا “ عَائِدَةٌ عَلَى “ الرِّيحِ الطَّيِّبَةِ “‏.‏

‏{‏جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ جَاءَتِ الْفُلْكَ رِيحٌ عَاصِفٌ، وَهِيَ الشَّدِيدَةُ‏.‏

وَالْعَرَبُ تَقُولُ‏:‏ “ رِيحٌ عَاصِفٌ، وَعَاصِفَةٌ “، وَ“ وَقَدْ أَعَصَفَتِ الرِّيحُ، وَعَصَفَتْ “ وَ“ أَعَصَفَتْ “، فِي بَنِي أَسَدٍ فِيمَا ذَكَرَ، قَالَ بَعْضُ بَنِي دُبَيْرٍ‏:‏

حَتَّى إِذَا أَعْصَفَتْ رِيحٌ مُزَعْزِعَةٌ *** فِيهَا قِطَارٌ وَرَعْدٌ صَوْتُهُ زَجِلُ

‏{‏وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَجَاءَ رُكْبَانَ السَّفِينَةِ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ‏{‏وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَظَنُّوا أَنَّ الْهَلَاكَ قَدْ أَحَاطَ بِهِمْ وَأَحْدَقَ ‏{‏دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ أَخْلَصُوا الدُّعَاءَ لِلَّهِ هُنَالِكَ، دُونَ أَوْثَانِهِمْ وَآلِهَتِهِمْ، وَكَانَ مَفْزِعُهُمْ حِينَئِذٍ إِلَى اللَّهِ دُونَهَا، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏، قَالَ‏:‏ إِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ أَخْلَصُوا لَهُ الدُّعَاءَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرْنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرْنَا الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَرَّةَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏، “ هيا شرا هيا “ تَفْسِيرُهُ‏:‏ يَا حَيُّ يَا قَوْمُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ‏}‏ إِلَى آخَرَ الْآيَةِ، قَالَ‏:‏ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ مَا يَدْعُونَ، فَإِذَا كَانَ الضُّرُّ لَمْ يَدْعُوا إِلَّا اللَّهَ، فَإِذَا نَجَّاهُمْ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ‏.‏

‏{‏لَئِنْ أَنْجَيْتِنَا‏}‏ مِنْ هَذِهِ الشِّدَّةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا ‏{‏لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ‏}‏، لَكَ عَلَى نِعَمِكَ، وَتَخْلِيصِكِ إِيَّانَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، بِإِخْلَاصِنَا الْعِبَادَةَ لَكَ، وَإِفْرَادِ الطَّاعَةِ دُونَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ‏}‏ فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ‏}‏ مِنْ “ السَّيْرِ “ بِالسِّينِ‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ الْقَارِّيُّ‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي يَنْشُرُكُمْ‏}‏، مِنْ “ النَّشْرِ “‏,‏ وَذَلِكَ الْبَسْطُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ “ نَشَرْتُ الثَّوْبَ “ وَذَلِكَ بَسْطُهُ وَنَشْرُهُ مِنْ طَيِّهِ‏.‏

فَوَجَّهَ أَبُو جَعْفَرٍ مَعْنَى ذَلِكَ إِلَى أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ عِبَادَهُ فَيَبْسُطُهُمْ بَرًّا وَبَحْرًا وَهُوَ قَرِيبُ الْمَعْنَى مِنْ “ التَّسْيِيرِ “‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ‏}‏، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏:‏ ‏{‏فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ‏}‏، فَوَحَّدَ ‏[‏سُورَةَ يس‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وَالْفَلَكُ‏:‏ اسْمٌ لِلْوَاحِدَةِ، وَالْجِمَاعِ، وَيُذْكَرُ وَيُؤَنَّثُ‏.‏

قَالَ‏:‏ ‏{‏وَجَرَيْنَ بِهِمْ‏}‏، وَقَدْ قَالَ ‏{‏هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ‏}‏ فَخَاطَبَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ‏.‏ وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْكِتَابِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

وَجَوَابُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ‏}‏ ‏{‏وَجَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ‏}‏‏.‏

وَأَمَّا جَوَابُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ‏}‏ فَـ ‏{‏دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّيَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَلَمَّا أَنْجَى اللَّهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ظَنُّوا فِي الْبَحْرِ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ، مِنَ الْجَهْدِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ، أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ، وَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، فَتَجَاوَزُوا فِيهَا إِلَى غَيْرِ مَا أَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ فِيهِ، مِنَ الْكُفْرِ بِهِ، وَالْعَمَلِ بِمَعَاصِيهِ عَلَى ظَهْرِهَا‏.‏

يَقُولُ اللَّهُ‏:‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا اعْتِدَاؤُكُمُ الَّذِي تَعْتَدُونَهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَإِيَّاهَا تَظْلِمُونَ‏.‏ وَهَذَا الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ ‏{‏مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ ذَلِكَ بَلَاغٌ تُبَلَّغُونَ بِهِ فِي عَاجِلِ دُنْيَاكُمْ‏.‏

وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، “ الْبَغْيُ “ يَكُونُ مَرْفُوعًا بِالْعَائِدِ مِنْ ذَكَرِهِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏عَلَى أَنْفُسِكُمْ‏}‏ وَيَكُونُ قَوْلُهُ ‏{‏مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏، مَرْفُوعًا عَلَى مَعْنَى‏:‏ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ‏}‏، ‏[‏سُورَةَ الْأَحْقَافِ‏:‏ 35‏]‏، بِمَعْنَى‏:‏ هَذَا بَلَاغٌ‏.‏

وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، لِأَنَّكُمْ بِكُفْرِكُمْ تُكْسِبُونَهَا غَضَبَ اللَّهِ، مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، كَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَيَكُونُ “ الْبَغْيُ “ مَرْفُوعًا بِـ “ الْمَتَاعِ “ وَ“ عَلَى أَنْفُسِكُمْ “ مِنْ صِلَةِ “ الْبَغْيِ “‏.‏

وَبِرَفْعِ “ الْمَتَاعِ “ قَرَأَتِ الْقُرَّاءُ سِوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ فَإِنَّهُ نَصَبَهُ، بِمَعْنَى‏:‏ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَجَعَلَ “ الْبَغْيَ “ مَرْفُوعًا بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏عَلَى أَنْفُسِكُمْ‏}‏، وَ“ الْمَتَاعُ “ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ ثُمَّ إِلَيْنَا بَعْدَ ذَلِكَ مَعَادُكُمْ وَمَصِيرُكُمْ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْمَمَاتِ يَقُولُ‏:‏ فَنُخْبِرُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ، وَنُجَازِيكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمُ الَّتِي سَلَفَتْ مِنْكُمْ فِي الدُّنْيَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِمِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنَّمَا مَثَلُ مَا تُبَاهُونَ فِي الدُّنْيَا وَتُفَاخِرُونَ بِهِ مِنْ زِينَتِهَا وَأَمْوَالِهَا، مَعَ مَا قَدْ وُكِّلَ بِذَلِكَ مِنَ التَّكْدِيرِ وَالتَّنْغِيصِ وَزَوَالِهِ بِالْفَنَاءِ وَالْمَوْتِ، كَمَثَلِ مَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ، يَقُولُ‏:‏ كَمَطَرٍ أَرْسَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ‏{‏فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ فَنَبَتَ بِذَلِكَ الْمَطَرِ أَنْوَاعٌ مِنَ النَّبَاتِ، مُخْتَلِطٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ‏}‏، قَالَ‏:‏ اخْتَلَطَ فَنَبَتَ بِالْمَاءِ كُلُّ لَوْنٍ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ، كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَسَائِرِ حُبُوبِ الْأَرْضِ وَالْبُقُولِ وَالثِّمَارِ، وَمَا يَأْكُلُهُ الْأَنْعَامُ وَالْبَهَائِمُ مِنَ الْحَشِيشِ وَالْمَرَاعِي‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا‏}‏ يَعْنِي‏:‏ ظَهَرَ حُسْنُهَا وَبَهَاؤُهَا ‏{‏وَازَّيَّنَتْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَتَزَيَّنَتْ ‏{‏وَظَنَّ أَهْلُهَا‏}‏، يَعْنِي‏:‏ أَهْلَ الْأَرْضِ ‏{‏أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا‏}‏، يَعْنِي‏:‏ عَلَى مَا أَنْبَتَتْ‏.‏

وَخَرَجَ الْخَبَرُ عَنِ “ الْأَرْضِ “ وَالْمَعْنَى لِلنَّبَاتِ، إِذَا كَانَ مَفْهُومًا بِالْخِطَابِ مَا عُنِيَ بِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ جَاءَ الْأَرْضَ “ أَمْرُنَا “ يَعْنِي‏:‏ قَضَاؤُنَا بِهَلَاكِ مَا عَلَيْهَا مِنَ النَّبَاتِ إِمَّا لَيْلًا وَإِمَّا نَهَارًا ‏{‏فَجَعَلْنَاهَا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ فَجَعَلْنَا مَا عَلَيْهَا ‏{‏حَصِيدًا‏}‏ يَعْنِي‏:‏ مَقْطُوعَةً مَقْلُوعَةً مِنْ أُصُولِهَا‏.‏

وَإِنَّمَا هِيَ “ مَحْصُودَةٌ “ صُرِفَتْ إِلَى “ حَصِيدٍ “‏.‏

‏{‏كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الزُّرُوعُ وَالنَّبَاتُ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ نَابِتَةً قَائِمَةً عَلَى الْأَرْضِ قَبْلَ ذَلِكَ بِالْأَمْسِ‏.‏

وَأَصْلُهُ‏:‏ مِنْ “ غَنِيَ فَلَانٌ بِمَكَانِ كَذَا، يَغْنَى بِهِ “، إِذَا أَقَامَ بِهِ، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ‏:‏

غَنِيَتْ بِذَلِكَ إِذْ هُمُ لَكَ جِيرَةٌ *** مِنْهَا بِعَطْفِ رِسَالَةٍ وَتَوَدُّدِ

يَقُولُ‏:‏ فَكَذَلِكَ يَأْتِي الْفَنَاءُ عَلَى مَا تَتَبَاهَوْنَ بِهِ مِنْ دُنْيَاكُمْ وَزَخَارِفِهَا، فَيُفْنِيهَا وَيُهْلِكُهَا كَمَا أَهْلَكَ أَمْرُنَا وَقَضَاؤُنَا نَبَاتَ هَذِهِ الْأَرْضِ بَعْدَ حُسْنِهَا وَبَهْجَتِهَا، حَتَّى صَارَتْ كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ، كَأَنْ لَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ نَبَاتًا عَلَى ظَهْرِهَا‏.‏

يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهَا‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ كَمَا بَيَّنَّا لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مَثَلَ الدُّنْيَا‏,‏ وَعَرَّفْنَاكُمْ حُكْمَهَا وَأَمْرَهَا، كَذَلِكَ نُبَيِّنُ حُجَجَنَا وَأَدِلَّتَنَا لِمَنْ تَفَكَّرَ وَاعْتَبَرَ وَنَظَرَ‏.‏

وَخُصَّ بِهِ أَهْلُ الْفِكْرِ، لِأَنَّهُمْ أَهَّلُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْأُمُورِ، وَالْفَحْصِ عَنْ حَقَائِقَ مَا يَعْرِضُ مِنَ الشُّبَهِ فِي الصُّدُورِ‏.‏

وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا‏}‏ الْآيَةَ‏:‏ أَيْ وَاللَّهِ، لَئِنْ تَشَبَّثَ بِالدُّنْيَا وَحَدِبَ عَلَيْهَا، لَتُوشِكُ الدُّنْيَا أَنْ تَلْفِظَهُ وَتَقْضِيَ مِنْهُ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِِ الْأَعْلَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏وَازَّيَّنَتْ‏}‏، قَالَ‏:‏ أَنْبَتَتْ وَحَسُنَتْ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ مَرْوَانَ يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏(‏حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَّنَ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُهْلِكَهَا إِلَّا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا‏)‏، قَالَ‏:‏ قَدْ قَرَأَتْهَا، وَلَيْسَتْ فِي الْمُصْحَفِ‏.‏ فَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ‏:‏ هَكَذَا يَقْرَؤُهَا ابْنُ عَبَّاسٍ‏.‏ فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ‏:‏ هَكَذَا أَقْرَأَنِي أَبِيُّ بْنُ كَعْبٍ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِِ الْأَعْلَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ كَأَنْ لَمْ تَعِشْ، كَأَنْ لَمْ تَنْعَمْ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنِ اِسْمَاعِيلَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ‏:‏ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ‏:‏ ‏{‏كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ وَمَا أَهْلَكْنَاهَا إِلَّا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَازَّيَّنَتْ‏}‏‏.‏

فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ‏:‏ ‏{‏وَازَّيَّنَتْ‏}‏ بِمَعْنَى‏:‏ وَتَزَيَّنَتْ، وَلَكِنَّهُمْ أَدْغَمُوا التَّاءَ فِي الزَّايِ لِتُقَارِبِ مَخْرَجَيْهِمَا، وَأَدْخَلُوا أَلْفًا لِيُوصِلَ إِلَى قِرَاءَتِهِ، إِذْ كَانَتِ التَّاءُ قَدْ سَكَنَتْ، وَالسَّاكِنُ لَا يُبْتَدَأُ بِهِ‏.‏

وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَأَبِي رَجَاءٍ وَالْأَعْرَجِ وَجَمَاعَةٍ أُخَرَ غَيْرِهِمْ، أَنَّهُمْ قَرَءُوا ذَلِكَ‏:‏ ‏{‏وَأَزْيَنَتْ‏}‏ عَلَى مِثَالِ “ أَفُعِلَتْ “‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ‏:‏ ‏{‏وَازَّيَّنَتْ‏}‏ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِعِبَادِهِ‏:‏ أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَطْلُبُوا الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا، فَإِنَّ مَصِيرَهَا إِلَى فَنَاءٍ وَزَوَالٍ، كَمَا مَصِيرُ النَّبَاتِ الَّذِي ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهَا مَثَلًا إِلَى هَلَاكٍ وَبَوَارٍ، وَلَكِنِ اطْلُبُوا الْآخِرَةَ الْبَاقِيَةَ، وَلَهَا فَاعْمَلُوا، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ فَالْتَمِسُوا بِطَاعَتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَدْعُوكُمْ إِلَى دَارِهِ، وَهِيَ جَنَّاتُهُ الَّتِي أَعَدَّهَا لِأَوْلِيَائِهِ، تَسْلَمُوا مِنَ الْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ فِيهَا، وَتَأْمَنُوا مِنْ فَنَاءِ مَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ وَالْكَرَامَةِ الَّتِي أَعَدَّهَا لِمَنْ دَخَلَهَا، وَهُوَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ فَيُوَفِّقُهُ لِإِصَابَةِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي جَعَلَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ سَبَبًا لِلْوُصُولِ إِلَى رِضَاهُ، وَطَرِيقًا لِمَنْ رَكِبَهُ وَسَلَكَ فِيهِ إِلَى جِنَانِهِ وَكَرَامَتِهِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِِ الْأَعْلَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ “ اللَّهُ “، السَّلَامُ، وَدَارُهُ الْجَنَّةُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرْنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرْنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ‏}‏، قَالَ‏:‏ “ اللَّهُ “ هُوَ السَّلَامُ، وَدَارُهُ الْجَنَّةُ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِِ الْأَعْلَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قَلَابَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ قِيلَ لِي‏:‏ “ لِتَنَمْ عَيْنُكَ، وَلِيَعْقِلْ قَلْبُكَ، وَلِتَسْمَعْ أُذُنُكَ “ فَنَامَتْ عَيْنِي، وَعَقَلَ قَلْبِي، وَسَمِعَتْ أُذُنِي‏.‏ ثُمَّ قِيلَ‏:‏ “ سَيِّدٌ بَنَى دَارًا، ثُمَّ صَنَعَ مَأْدُبَةً، ثُمَّ أَرْسَلَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ، وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَرَضِيَ عَنْهُ السَّيِّدُ‏.‏ وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ، لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَلَمْ يَرْضَ عَنْهُ السَّيِّدُ “ فَاللَّهُ السَّيِّدُ، وَالدَّارُ الْإِسْلَامُ، وَالْمَأْدُبَةُ الْجَنَّةُ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “‏.‏

حَدَّثَنَا بَشَرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏، ذَكَرَ لَنَا أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبًا‏:‏ “ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ هَلُمَّ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ انْتَهِ “‏.‏

حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ أَبِي كَبْشَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي خُلَيدٌ الْعَصَرِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَا مِنْ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ شَمْسُهُ إِلَّا وَبِجَنَبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ، يَسْمَعُهُ خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ

‏:‏ “ يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ، إِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى “‏.‏ قَالَ‏:‏ وَأَنْزَلَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنْ لَيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ‏:‏ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَال‏:‏ إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ جِبْرِيلَ عِنْدَ رَأْسِي، وَمِيكَائِيلَ عِنْدَ رِجْلِي، يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ‏:‏ اضْرِبْ لَهُ مَثَلًا‏!‏ فَقَالَ‏:‏ اسْمَعْ سَمِعْتُ أُذُنُكَ، وَاعْقِلْ عَقَلَ قَلْبُكَ، إِنَّمَا مَثَلُكَ وَمَثَلُ أُمَّتِكَ، كَمَثَلِ مَلِكٍ اتَّخَذَ دَارًا، ثُمَّ بَنَى فِيهَا بَيْتًا، ثُمَّ جَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً، ثُمَّ بَعَثَ رَسُولًا يَدْعُو النَّاسَ إِلَى طَعَامِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ الرَّسُولَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَهُ‏.‏ فَاللَّهُ الْمَلِكُ، وَالدَّارُ الْإِسْلَامُ، وَالْبَيْتُ الْجَنَّةُ، وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ الرَّسُولُ، مَنْ أَجَابَكَ دَخَلَ الْإِسْلَامَ، وَمَنْ دَخَلَ الْإِسْلَامَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَكَلَ مَا فِيهَا»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا عِبَادَةَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ خَلْقِهِ، فَأَطَاعُوهُ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى، ‏{‏الْحُسْنَى‏}‏‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى “ الْحُسْنَى “، وَ“ الزِّيَادَةِ “ اللَّتَيْنِ وَعَدَهُمَا الْمُحْسِنِينَ مِنْ خَلْقِهِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ “ الْحُسْنَى “ هِيَ الْجَنَّةُ، جَعَلَهَا اللَّهُ لِلْمُحْسِنِينَ مِنْ خَلْقِهِ جَزَاءً “ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا “، النَّظَرُ إِلَى اللَّهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ رَبِّهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ قَيْسٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ نِمْرَانِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ رَبِّهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ “ الزِّيَادَةُ “ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الرَّحْمَنِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ نَذِيرٍ عَنْ حُذَيْفَةَ‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ رَبِّهِمْ‏.‏

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ طَلْحَةَ الْيَرْبُوعِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏وَزِيَادَةٌ‏)‏، قَالَ‏:‏ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الرَّحْمَنِ‏.‏

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عِيسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيَّ يُحَدَّثُ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ‏:‏ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بَعْثَ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مُنَادِيًا يُنَادِي‏:‏ “ هَلْ أَنْجَزَكُمُ اللَّهُ مَا وَعَدَكُمْ “‏!‏ فَيَنْظُرُونَ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ، فَيَقُولُونَ‏:‏ نَعَمْ‏!‏ فَيَقُولُ‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏، النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الرَّحْمَنِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرْنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ قَالَ‏:‏ أَخْبَرْنَا أَبُو تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيُّ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ‏:‏ إِنِ اللَّهَ يَبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَلَكًا إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ‏:‏ “ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، هَلْ أَنْجَزَكُمُ اللَّهُ مَا وَعَدَكُمْ “‏!‏ فَيَنْظُرُونَ، فَيَرَوْنَ الْحُلِيَّ وَالْحُلَلَ وَالثِّمَارَ وَالْأَنْهَارَ وَالْأَزْوَاجَ الْمُطَهَّرَةَ، فَيَقُولُونَ‏:‏ “ نَعَمْ، قَدْ أَنْجَزْنَا اللَّهُ مَا وَعَدَنَا “‏!‏ ثُمَّ يَقُولُ الْمَلَكُ‏:‏ “ هَلْ أَنْجَزَكُمُ اللَّهُ مَا وَعَدَكُمْ “‏؟‏ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَا يَفْقِدُونَ شَيْئًا مِمَّا وُعِدُوا، فَيَقُولُونَ‏:‏ “ نَعَمْ “‏!‏ فَيَقُولُ‏:‏ “ قَدْ بَقَى لَكُمْ شَيْءٌ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏، أَلَا إِنَّ الْحُسْنَى الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ “‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي شَبِيبٌ عَنْ أَبَانَ عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ‏:‏ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُنَادِيًا يُنَادِي أَهْلَ الْجَنَّةِ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ‏:‏ “ إِنِ اللَّهَ وَعْدَكُمُ الْحُسْنَى وَزِيَادَةً، فَالْحُسْنَى الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الرَّحْمَنِ “‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتِ الْبُنَانِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ رَبِّهِمْ‏.‏ وَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ بَعْدَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ رَبِّهِمْ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرْنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرْنَا ثَابِتٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَزِيَادَةٌ‏)‏، قَالَ‏:‏ قِيلَ لَهُ‏:‏ أَرَأَيْتَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ إِنْ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ فَأُعْطُوا فِيهَا مَا أُعْطُوا مِنَ الْكَرَامَةِ وَالنَّعِيمِ، قَالَ‏:‏ نُودُوا‏:‏ “ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، إِنِ اللَّهَ قَدْ وَعَدَكُمُ الزِّيَادَةَ، فَيَتَجَلَّى لَهُمْ “ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى‏:‏ فَمَا ظَنُّكَ بِهِمْ حِينَ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُمْ، وَحِينَ صَارَتِ الصُّحُفُ فِي أَيْمَانِهِمْ، وَحِينَ جَاوَزُوا جِسْرَ جَهَنَّمَ وَدَخَلُوا الْجَنَّةَ، وَأُعْطُوْا فِيهَا مَا أُعْطُوْا مِنَ الْكَرَامَةِ وَالنَّعِيمِ‏؟‏ كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا فِيمَا رَأَوْا‏!‏‏.‏

قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ رَبِّهِمْ‏.‏

قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ وَمُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ قَالَا حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ‏:‏ إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ قَالَ لَهُمْ‏:‏ إِنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْءٌ لَمْ تُعْطَوْهُ‏!‏ قَالَ‏:‏ فَيَتَجَلَّى لَهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏.‏ قَالَ‏:‏ فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ أُعْطَوْهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْحُسْنَى الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ رَبِّهِمْ، وَلَا يُرْهِقُ وُجُوهَهُمْ قُتْرٌ وَلَا ذِلَّةٌ بَعْدَ ذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏، النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هَوْذَةُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَوْفٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏، النَّظَرُ إِلَى الرَّبِّ‏.‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، نُودُوا‏:‏ “ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا “‏!‏ قَالُوا‏:‏ مَا هُوَ‏؟‏ أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، وَتُثْقِلْ مَوَازِينَنَا، وَتُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَتُنْجِنَا مِنَ النَّارِ‏؟‏ فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ، فَيَتَجَلَّى لَهُمْ، فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْه»‏.‏ وَلَفْظُ الْحَدِيثِ لِعَمْرٍو‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ‏:‏ «تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ “ إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، نَادَى مُنَادٍ‏:‏ “ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجَزَكُمُوهُ “‏.‏ فَيَقُولُونَ‏:‏ “ وَمَا هُوَ‏؟‏ أَلَمْ يُثْقِلِ اللَّهُ مَوَازِينَنَا، وَيُبَيِّضْ وُجُوهَنَا‏؟‏ » ثُمَّ ذَكَرَ سَائِرَ الْحَدِيثِ نَحْوَ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ وَابْنِ بَشَّارٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ‏.‏

قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحِمَّانِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ نَمِرَانِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏.‏

قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏، بَلَغَنَا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا دَخَلُوا الْجَنَّةَ نَادَاهُمْ مُنَادٍ‏:‏ إِنِ اللَّهَ وَعَدَكُمُ الْحُسْنَى وَهِيَ الْجَنَّةُ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ، فَالنَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الرَّحْمَنِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُخْتَارِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ الزِّيَادَةُ، النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الرَّحْمَنِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى»‏.‏

قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ قَالَ‏:‏ “ الْحُسْنَي “ النَّضِرَةُ وَ“ الزِّيَادَةُ “ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ الْبَرْقِيِّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ زُهَيْرًا عَمَّنْ سَمِعَ أَبَا الْعَالِيَةِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبِيُّ بْنُ كَعْبٍ‏:‏ أَنَّهُ «سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْحُسْنَى‏:‏ الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّه»‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ فِي “ الزِّيَادَةِ “، بِمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِهِ يَحْيَى بْنُ طَلْحَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا فَضِيلُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ “ الزِّيَادَةُ “ غُرْفَةٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ لَهَا أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَكَّامٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ مَنْصُورٍ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ‏:‏ فِيهَا أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ‏.‏

حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مِثْلَ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ فَضِيلٍ، سَوَاءً‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ “ الْحُسْنَى “ وَاحِدَةٌ مِنَ الْحَسَنَاتِ بِوَاحِدَةٍ وَ“ الزِّيَادَةُ “ التَّضْعِيفُ إِلَى تَمَامِ الْعَشْرِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ هُوَ مِثْلَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ‏}‏، ‏[‏سُورَةَ ق‏:‏ 35‏]‏، يَقُولُ‏:‏ يَجْزِيهِمْ بِعَمَلِهِمْ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ‏}‏، ‏[‏سُورَةَ الْأَنْعَامِ‏:‏ 160‏]‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ قَابُوسٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏، قَالَ قُلْتُ‏:‏ هَذِهِ الْحُسْنَى، فَمَا الزِّيَادَةُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا‏}‏‏؟‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ الزِّيَادَةُ‏:‏ بِالْحَسَنَةِ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ “ الْحُسْنَى “ حَسَنَةٌ مِثْلُ حَسَنَةٍ وَ“ الزِّيَادَةُ “ زِيَادَةُ مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى‏}‏، مِثْلُهَا حُسْنَى “ وَزِيَادَةٌ “، مَغْفِرَةٌ وَرِضْوَانٌ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ “ الزِّيَادَةُ “، مَا أُعْطُوْا فِي الدُّنْيَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ “ الْحُسْنَى “ الْجَنَّةُ “ وَزِيَادَةٌ “ مَا أَعْطَاهُمْ فِي الدُّنْيَا، لَا يُحَاسِبُهُمْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏.‏ وَقَرَءُوا‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا‏}‏، ‏[‏سُورَةَ الْعَنْكَبُوتِ‏:‏ 27‏]‏، قَالَ‏:‏ مَا آتَاهُ مِمَّا يُحِبُّ فِي الدُّنْيَا، عَجَّلَ لَهُ أَجْرَهُ فِيهَا‏.‏

وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى‏}‏، بِمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لِلَّذِينِ شَهِدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَعَدَ الْمُحْسِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ عَلَى إِحْسَانِهِمُ الْحُسْنَى، أَنْ يَجْزِيَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ الْجَنَّةَ، وَأَنْ تَبْيَضَ وُجُوهُهُمْ، وَوَعْدَهُمْ مَعَ الْحُسْنَى الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا‏.‏ وَمِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى إِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ أَنْ يُكْرِمَهُمْ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُعْطِيَهُمْ غُرَفًا مِنْ لَآلِئَ، وَأَنْ يَزِيدَهُمْ غُفْرَانًا وَرِضْوَانًا، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ زِيَادَاتِ عَطَاءِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى الْحُسْنَى الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لِأَهْلِ جَنَّاتِهِ‏.‏ وَعَمَّ رَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَزِيَادَةٌ‏)‏، الزِّيَادَاتِ عَلَى “ الْحُسْنَى “ فَلَمْ يُخَصِّصْ مِنْهَا شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ، وَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أَنْ يَجْمَعَ ذَلِكَ لَهُمْ، بَلْ ذَلِكَ كُلُّهُ مَجْمُوعٌ لَهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏ فَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، أَنْ يَعُمَّ، كَمَا عَمَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ‏}‏، لَا يُغْشَى وُجُوهَهُمْ كَآبَةٌ، وَلَا كُسُوفٌ، حَتَّى تَصِيرَ مِنَ الْحُزْنِ كَأَنَّمَا عَلَاهَا قَتَرٌ‏.‏

وَ“ الْقَتَرُ “ الْغُبَارُ، وَهُوَ جَمْعُ “ قَتَرَةٍ “ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

مُتَوَّجٌ بِرِدَاءِ الْمُلْكِ يَتْبَعُهُ *** مَوْجٌ تَرَى فَوْقَهُ الرَّايَاتِ وَالْقَتَرَا

يَعْنِي بِـ “ الْقَتَرِ “ الْغُبَارَ‏.‏

‏{‏وَلَا ذِلَّةٌ‏}‏، وَلَا هَوَانٌ ‏{‏أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْتُ صِفَتَهُمْ، هُمْأَهْلُ الْجَنَّةِ وَسُكَّانُهَا،

وَمَنْ هُوَ فِيهَا ‏{‏هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ هُمْ فِيهَا مَاكِثُونَ أَبَدًا، لَا تَبِيدُ، فَيَخَافُوا زَوَالَ نَعِيمِهِمْ، وَلَا هُمْ بِمُخْرِجِينَ فَتَتَنَغَّصُ عَلَيْهِمْ لَذَّتُهُمْ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ‏}‏ مَا‏:‏-

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الطُّوسِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَفَّانُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَمَّادَ بْنُ زَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا زَيْدٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى‏:‏ ‏{‏وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ بَعْدَ نَظَرِهِمْ إِلَى رَبِّهِمْ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ وَمُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ قَالَا حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ سَوَادُ الْوُجُوهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ فِي الدُّنْيَا جَزَاؤُهُمْ فَعَصَوُا اللَّهُ فِيهَا، وَكَفَرُوا بِهِ وَبِرَسُولِهِ ‏{‏جَزَاءُ سَيِّئَةٍ‏}‏، مِنْ عَمَلِهِ السَّيِّئِ الَّذِي عَمِلَهُ فِي الدُّنْيَا ‏{‏بِمِثْلِهَا‏}‏، مِنْ عِقَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ ‏{‏وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَتَغْشَاهُمْ ذِلَّةٌ وَهَوَانٌ، بِعِقَابِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ

‏{‏مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ مَانِعٍ يَمْنَعُهُمْ، إِذَا عَاقَبَهُمْ، يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا قَوْلَهُ‏:‏ “ وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ “ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ تَغْشَاهُمْ ذِلَّةٌ وَشِدَّةٌ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي الرَّافِعِ لِـ “جَزَاءُ“‏.‏

فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ‏:‏ رُفِعَ بِإِضْمَارِ “ لَهُمْ “ كَأَنَّهُ قِيلَ‏:‏ وَلَهُمْ جَزَاءُ السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا، كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ‏}‏، ‏[‏سُورَةَ الْبَقَرَةِ‏:‏ 196‏]‏، وَالْمَعْنَى‏:‏ فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، قَالَ‏:‏ وَإِنْ شِئْتَ رَفَعْتَ الْجَزَاءَ بِالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا‏}‏‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ‏:‏ “ الْجَزَاءُ “ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ ‏{‏بِمِثْلِهَا‏}‏‏.‏ قَالَ‏:‏ وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ مِثْلُهَا، وَزِيدَتِ “ الْبَاءُ “، كَمَا زِيدَتْ فِي قَوْلِهِ‏:‏ “ بِحَسْبِكَ قَوْلُ السُّوءِ “‏.‏

وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ‏:‏ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ “ الْبَاءُ “ فِي “ حَسْبَ “ ‏[‏زَائِدَةٌ‏]‏

لِأَنَّ التَّأْوِيلَ‏:‏ إِنْ قُلْتَ السُّوءَ فَهُوَ حَسْبُكَ فَلَمَّا لَمْ تَدْخُلُ فِي الْخَبَرِ، أُدْخِلَتْ فِي “ حَسْبِ “، “ بِحَسْبِكَ أَنْ تَقُومَ “‏:‏ إِنْ قُمْتَ فَهُوَ حَسْبُكَ‏.‏ فَإِنْ مُدِحَ مَا بَعْدَ “ حَسَبُ “ أَدْخَلْتَ “ الْبَاءَ “، فِيمَا بَعْدَهَا، كَقَوْلِكَ‏:‏ “ حَسْبُكَ بِزَيْدٍ “ وَلَا يَجُوزُ “ بِحَسْبِكَ زَيْدٌ “ لِأَنَّ زَيْدًا الْمَمْدُوحُ، فَلَيْسَ بِتَأْوِيلِ خَبَرٍ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، أَنْ يَكُونَ “ الْجَزَاءُ “ مَرْفُوعًا بِإِضْمَارٍ، بِمَعْنَى‏:‏ فَلَهُمْ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا، لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏، فَوَصَفَ مَا أَعَدَّ لِأَوْلِيَائِهِ، ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِالْخَبَرِ عَمَّا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَعْدَائِهِ، فَأَشْبَهُ بِالْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ‏:‏ وَلِلَّذِينِ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ، وَإِذَا وُجِّهَ ذَلِكَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، كَانَتِ الْبَاءُ صِلَةً لِلْجَزَاءِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ كَأَنَّمَا أُلْبِسَتْ وُجُوهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ

‏{‏قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ‏}‏، وَهِيَ جُمَعُ “ قِطْعَةٍ “‏.‏

وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا‏}‏، قَالَ‏:‏ ظُلْمَةٌ مِنَ اللَّيْلِ‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏(‏قِطَعًا‏)‏ فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ‏:‏ ‏(‏قِطَعًا‏)‏ بِفَتْحِ الطَّاءِ، عَلَى مَعْنَى جَمْعِ “ قِطْعَةٍ “ وَعَلَى مَعْنَى أَنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ‏:‏ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وَجْهَ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ قِطْعَةٌ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ، ثُمَّ جَمَعَ ذَلِكَ فَقِيلَ‏:‏ كَأَنَّمَا أَغَشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنْ سَوَادٍ، إِذْ جُمِعَ “ الْوَجْهُ “‏.‏

وَقَرَأَهُ بَعْضُ مُتَأَخَّرِي الْقُرَّاءِ‏:‏ “ قِطَعًا “ بِسُكُونِ الطَّاءِ، بِمَعْنَى‏:‏ كَأَنَّمَا أَغَشِيَتْ وُجُوهُهُمْ سَوَادًا مِنَ اللَّيْلِ، وَبَقِيَّةً مِنَ اللَّيْلِ، سَاعَةً مِنْهُ، كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ‏}‏، ‏[‏سُورَةَ الْحِجْرِ‏:‏ 65‏]‏، أَيْ‏:‏ بِبَقِيَّةٍ قَدْ بَقِيَتْ مِنْهُ‏.‏

وَيَعْتَلُّ لِتَصْحِيحِ قِرَاءَتِهِ كَذَلِكَ، أَنَّهُ فِي صُحُفِ أُبَيٍّ‏:‏ ‏{‏وَيَغْشَى وُجُوهَهُمْ قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا يَجُوزُ خِلَافُهَا عِنْدِي، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِفَتْحِ الطَّاءِ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنْ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى تَصْوِيبِهَا، وَشُذُوذِ مَا عَدَاهَا‏.‏ وَحَسَبُ الْأُخْرَى دَلَالَةً عَلَى فَسَادِهَا خُرُوجُ قَارِئِهَا عَمَّا عَلَيْهِ قُرَّاءُ أَهْلِ أَمْصَارِ الْإِسْلَامِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ فَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ مَا قُلْتَ، فَمَا وَجْهُ تَذْكِيرِ “ الْمُظْلِمِ “ وَتَوْحِيدِهِ، وَهُوَ مِنْ نَعْتِ “ الْقِطَعِ “، وَ“ الْقِطَعُ “ جَمْعٌ لِمُؤَنَّثٍ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ فِي تَذْكِيرٍ ذَلِكَ وَجْهَانِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ قَطْعًا مِنْ “ اللَّيْلِ “‏.‏ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ نَعْتِ “ اللَّيْلِ “ فَلَمَّا كَانَ نَكِرَةً، وَ“ اللَّيْلُ “ مُعَرَّفَةً، نُصِبَ عَلَى الْقَطْعِ‏.‏

فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ‏:‏ كَأَنَّمَا أَغَشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قَطْعًا مِنَ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ثُمَّ حُذِفَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ مِنْ “ الْمُظْلِمِ “ فَلَمَّا صَارَ نَكِرَةً وَهُوَ مِنْ نَعْتُ “ اللَّيْلِ “، نُصِبَ عَلَى الْقَطْعِ‏.‏ وَتُسَمِّي أَهْلُ الْبَصْرَةِ مَا كَانَ كَذَلِكَ “ حَالًا “ وَالْكُوفِيُّونَ “ قَطْعًا “‏.‏

وَالْوَجْهُ الْآخَرُ‏:‏ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ الشَّاعِرِ‏:‏

لَوْ أَنَّ مِدْحَةَ حَيٍّ مُنْشِرٌ أَحَدًا ***

وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَحْسَنُ وَجْهَيْهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكَ صِفَتَهُمْ أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا

‏{‏هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ هُمْ فِيهَا مَاكِثُونَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَيَوْمَ نَجْمَعُ الْخَلْقَ لِمَوْقِفِ الْحِسَابِ جَمِيعًا، ثُمَّ نَقُولُ حِينَئِذٍ لِلَّذِينِ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ الْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادَ‏:‏ ‏(‏مَكَانَكُمْ‏)‏، أَيْ‏:‏ امْكُثُوا مَكَانَكُمْ، وَقِفُوا فِي مَوْضِعِكُمْ أَنْتُمْ، أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ، وَشُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ ‏{‏فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ فَفَرَقْنَا بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ وَمَا أَشْرَكُوهُ بِهِ‏.‏

‏[‏مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ “ زِلْتُ الشَّيْءَ أُزِيلُهُ “، إِذَا فَرَقْتَ بَيْنَهُ‏]‏ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَأَبَنْتَهُ مِنْهُ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ “ فَزَيَّلْنَا “ إِرَادَةَ تَكْثِيرِ الْفِعْلِ وَتَكْرِيرِهِ، وَلَمْ يُقَلْ‏:‏ “ فَزِلْنَا بَيْنَهُمْ “‏.‏

وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهُ‏:‏ ‏{‏فَزَايَلْنَا بَيْنَهُمْ‏}‏، كَمَا قِيلَ‏:‏ ‏{‏وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ‏}‏، ‏[‏سُورَةَ لُقْمَانَ‏:‏ 18‏]‏، وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي “ فَعَّلْتُ “ يُلْحِقُونَ فِيهَا أَحْيَانًا أَلْفًا مَكَانَ التَّشْدِيدِ، فَيَقُولُونَ‏:‏ “ فَاعَلْتُ “ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ لِوَاحِدٍ‏.‏ وَأَمَّا إِذَا كَانَ لِاثْنَيْنِ، فَلَا تَكَادُ تَقُولُ إِلَّا “ فَاعَلْتُ “‏.‏

‏{‏وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ‏}‏، وَذَلِكَ حِينَ ‏{‏تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ‏}‏، لَمَّا قِيلَ لِلْمُشْرِكِينَ‏:‏ “ اتَّبَعُوا مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ “ وَنُصِبَتْ لَهُمْ آلِهَتُهُمْ، قَالُوا‏:‏ “ كُنَّا نَعْبُدُ هَؤُلَاءِ “‏!‏، فَقَالَتِ الْآلِهَةُ لَهُمْ‏:‏ ‏{‏مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ‏}‏، كَمَا‏:‏-

حُدِّثْتُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَاعَةٌ فِيهَا شِدَّةٌ، تُنْصَبُ لَهُمُ الْآلِهَةُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ، فَيُقَالُ‏:‏ “ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ “ فَتَقُولُ الْآلِهَةُ‏:‏ “ وَاللَّهِ مَا كُنَّا نَسْمَعُ وَلَا نُبْصِرُ وَلَا نَعْقِلُ، وَلَا نَعْلَمُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَنَا “‏!‏ فَيَقُولُونَ‏:‏ “ وَاللَّهِ لَإِيَّاكُمْ كُنَّا نَعْبُدُ “‏!‏ فَتَقُولُ لَهُمُ الْآلِهَةُ‏:‏ ‏{‏فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍفِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ فَرَقْنَا بَيْنَهُمْ ‏{‏وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ‏}‏ ‏!‏ قَالُوا‏:‏ بَلَى، قَدْ كُنَّا نَعْبُدُكُمْ‏!‏ فَقَالُوا‏:‏ ‏{‏كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لِغَافِلِينَ‏}‏، مَا كُنَّا نَسْمَعُ وَلَا نُبْصِرُ وَلَا نَتَكَلَّمُ‏!‏ فَقَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ‏}‏ الْآيَةَ‏.‏

وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَانَ يَتَأَوَّلُ “ الْحَشْرَ “ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، الْمَوْتَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُهُمْ يَذْكُرُونَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا‏}‏، قَالَ‏:‏ الْحَشْرُ‏:‏ الْمَوْتُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَقُولُ يَوْمَئِذَ لِلَّذِينِ أَشْرَكُوا مَا ذَكَرَ أَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرِ كَائِنٍ فِي الْقَبْرِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَمَّا يُقَالُ لَهُمْ، وَيَقُولُونَ فِي الْمَوْقِفِ بَعْدَ الْبَعْثِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَيَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ شُرَكَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذْ قَالَ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ لَهَا‏:‏ إِيَّاكُمْ كُنَّا نَعْبُدُ ‏{‏كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ‏}‏، أَيْ إِنَّهَا تَقُولُ‏:‏ حَسْبُنَا اللَّهُ شَاهِدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ، فَإِنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّا مَا عَلِمْنَا مَا تَقُولُونَ ‏{‏إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لِغَافِلِينَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ مَا كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ إِيَّانَا دُونَ اللَّهِ إِلَّا غَافِلِينَ، لَا نَشْعُرُ بِهِ وَلَا نَعْلَمُ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ‏}‏، قَالَ‏:‏ كُلُّ شَيْءٍ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ ‏{‏إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ يَقُولُ ذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ كَانَ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏.‏